في العالم العربي لم يكن مأزق الدولة الوطنية متولداً لا عن أسباب أنثربولوجية اجتماعية ولا عن أسباب دينية
كان المفكر المصري المعروف «جلال أمين» الذي رحل مؤخراً إلى دار البقاء، يدعو في كتاباته الأخيرة إلى عودة الدولة القوية إلى العالم العربي بديلاً عن «الدولة الرخوة» الحالية؛ التي لم تعد قادرة في ساحات عديدة على القيام بوظائفها الأولية من تدعيم الوحدة الوطنية، والدفاع عن الحوزة الترابية، وتوفير الحاجيات الأساسية لمواطنيها.
وبطبيعة الأمر، يدرك جلال أمين أن نموذج الدولة القوية الذي قام في الخمسينيات والستينيات لم يعد ممكناً الرجوع إليه، إلا أنه يرى أنه لا خيار عن بناء إدارة بيروقراطية قوية ومؤسسة أمنية فاعلة وقاعدة اقتصادية مكينة، وإنْ كانت المهمة عسيرة نتيجة لتحكم العامل الخارجي في الوضع العربي.
المطلوب اليوم هو إعادة بناء الدولة الوطنية العربية بما يقتضي العمل على هياكلها البيروقراطية الإدارية من جهة، وهياكلها العسكرية من جهة أخرى، فهما ضمانتان للخروج من المأزق الحالي الذي انهارت فيه مؤسسات المجال العام، ولم تعد فيه الدولة تحتكر العنف المشروع نتيجة لتحكم المليشيات المسلحة.
ما نعتقده هو أن العالم العربي يحتاج إلى أكثر من إصلاحات سياسية ومؤسسية كما يقترح جلال أمين، بل إلى هندسة سياسية كاملة للتعامل مع أخطر تحدٍ يواجهه اليوم، وهو انهيار الدولة الوطنية في العديد من البلدان العربية، بما فيها بلدان محورية فاعلة في المنطقة.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن إصلاح وتحديث مؤسسات الدولة، شكّل أحد الأهداف الثابتة للحركيات الإصلاحية التي عرفتها المجتمعات العربية الإسلامية منذ نهاية القرن الثامن عشر، وقد تركزت أوانها على إصلاح المؤسستين العسكرية والإدارية باعتبارهما دعامتي الدولة، بيد أن المسار التاريخي للعالم العربي لم يعرف الاتجاه الذي سلكته المجتمعات الأوروبية الحديثة، حيث برزت الدولة السيادية في القرن السادس عشر قبل أن تتشكل الأمة بمفهومها المعاصر كتعبير عن الجسم الجماعي، ثم تتشكل قاعدتها الشرعية على أساس القانون الكلي المكرس للحرية الفردية وللمساواة الأصلية.
صحيح أن ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية حافظتا على بعض الخصوصيات في هذا المسار، إذ لم تستطع ألمانيا أن تحسم العلاقة بين الأمة والدولة في فترات كثيرة، ولذا كان التردد قائماً بين الصيغة الإمبراطورية القومية والدولة الوطنية غير المكتملة، في حين اتسمت الولايات المتحدة بازدواجية الدولة - الأمة والدولة - العالم بالنظر لمسار تشكلها غير القومي وطموحها الأصلي لتكون قِبلة العالم وقائدته نحو الحرية والرفاهية.
في العالم العربي لم يكن مأزق الدولة الوطنية متولداً لا عن أسباب أنثربولوجية اجتماعية (التركيبة العصبية الأبوية للمجتمع) ولا عن أسباب دينية (تعارض مفهوم الأمة الحديث مع مفهوم الأمة الإسلامي)، بل عن اختلالات الهندسة السياسية للدولة العربية الحديثة في ترتيب العلاقة بين المكونات الثلاثة للحداثة السياسية: الدولة السيادية، والأمة القومية، والشرعية القانونية للحكم.
لقد انقسمت البلدان العربية إلى ثلاثة نماذج كبرى: بلدان سعت إلى تطوير البنيات السياسية التي أحدثها الاستعمار الأوروبي في اتجاه بناء هويات وطنية مندمجة، وبلدان كرّست الانفصام بين الدائرة السياسية للدولة ودائرة الأمة بمفهومها القومي الأوسع، وبلدان سعت إلى تطوير الأشكال التقليدية للدولة السابقة للاستعمار.
في الحالة الأولى أحدثت الأنظمة العسكرية التي وصلت إلى السلطة في أغلب هذه البلدان خللاً عميقاً في تطور النظام السياسي بإنهاك وإضعاف الهياكل البيروقراطية للدولة التي هي التعبير عن المجال العمومي وأرضية الشرعية السياسية. وفي الحالة الثانية، تحولت الدولة الوطنية إلى مجرد «قُطْر» حسب المصطلح الدارج في الأدبيات العروبية، أي مجرد كيان سياسي محدود الشرعية والمرجعية التاريخية، يفتقد إلى الأرضية المجتمعية، بما يعني الانفصام الخطير بين محددي الهوية المتمايزين: الدولة والأمة. وفي الحالة الثالثة، نلاحظ أن هذه البلدان نجحت إجمالاً في معادلة الاستقرار السياسي والتنمية الاجتماعية، وتجنبت الانفصام مع أرضيتها المجتمعية، ولا تزال في طور عملية التحديث السياسي التي اقتضاها الوضع الاجتماعي الجديد.
ما نستخلص من هذا الاستعراض هو أن تجارب الهندسة السياسية العربية الراهنة عانت من ثغرة كبيرة هي ائتلاف التنظيمات والأحزاب القومية الرافضة لشكل الدولة الوطنية والاتجاهات السياسية التي قوضت عملياً المرتكزات المؤسسية للدولة. المطلوب اليوم هو إعادة بناء الدولة الوطنية العربية بما يقتضي العمل على هياكلها البيروقراطية الإدارية من جهة، وهياكلها العسكرية من جهة أخرى، فهما ضمانتان للخروج من المأزق الحالي الذي انهارت فيه مؤسسات المجال العام، ولم تعد فيه الدولة تحتكر العنف المشروع نتيجة لتحكم المليشيات المسلحة.
قالت لي إحدى القيادات السابقة لحزب «البعث» العربي الاشتراكي في العراق: «لقد كنا رافضين بشدة للدولة الوطنية التي نسميها حالة قُطرية غير شرعية، فظهر لنا أننا عندما عجزنا عن بناء هذه الدولة، كان البديل هو الكيانات الطائفية والعشائرية، لا الدولة القومية التي أصبحت أفقاً بعيد المنال».
نقلا عن الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة