شهدت المنطقة العربية في العقد الثاني من هذا القرن موجتين من التحركات الشعبية الواسعة، التي أدت إلى إحداث تغييرات سياسية واجتماعية مهمة
شهدت المنطقة العربية في العقد الثاني من هذا القرن موجتين من التحركات الشعبية الواسعة، التي أدت إلى إحداث تغييرات سياسية واجتماعية مهمة في عدد من الدول، بدأت الموجة الأولى مع مطلع هذه الحقبة في ديسمبر 2010، وشملت دول تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن، أما الموجة الثانية فكانت في نهاية الحقبة في عام 2019، وشملت السودان والجزائر والعراق ولبنان، والتي ما زالت لم تكتمل فصولها حتى الآن.
لا يمكن فهم المعادلة السياسية في كل هذه الدول -وغيرها- دون أن نأخذ موقف الجيوش بعين الاعتبار، ولا يمكن التقليل من دورها في الحفاظ على مسيرة الانتفاضات وسلميتها، أو تحولها إلى عنف وحروب أهلية
كانت الموجة الأولى سلبية في أغلب الأحوال من حيث نتائجها ومآلاتها، ففي ثلاث من دولها أدت إلى حروب وصراعات مسلحة ممتدة تشترك فيها أطراف داخلية وإقليمية ودولية، فهي خليط من الحروب الأهلية والحروب بالوكالة، وفي مصر انحرفت الانتفاضة عن مسارها لصالح أحزاب وقوى الإسلام السياسي حتى تم تصحيح الموقف بانتفاضة شعبية وتدخل عسكري أدى إلى دخول البلاد مرحلة جديدة من تطورها.
أما تونس فقد تعرضت لمجموعة من التقلبات في توازن القوى بين أطراف العملية السياسية، رافقه ازدياد الفجوة بين توقعات الشباب وما تم إنجازه بالفعل واستمرار أنشطة الجماعات المتطرفة والإرهابية، ومع ذلك فقد استطاعت تنظيم دورتين متتاليتين من الانتخابات التشريعية والرئاسية.
فما هي العوامل التي أثرت على مسارات الموجة الأولى من الانتفاضات العربية؟ وإلى أي مدى تستمر مثل هذه التأثيرات على الموجة الثانية؟ وأريد أن أركز في هذا المقال على عامل واحد فقط عادة ما يتم تجاهله، وهو دور الجيوش أو القوات المسلحة وتأثير الموقف الذي تتخذه تجاه مظاهرات واعتصامات المواطنين على مستقبل الانتفاضات ومسار تطورها، فالموقف الذي يتخذه الجيش هو عامل أساسي، بل أحيانا يكون العامل الأساسي في نجاح الانتفاضات أو فشلها، وفي حجم اللجوء الى العنف في أحداثها.
ونقطة البدء في فهم هذا الدور هو تحليل العقيدة العسكرية للجيش وتاريخه وكيفية تكوينه وتنظيمه، وتحديدا مدى التزام الجيش بالمهنية والاحترافية أو مدى تسييسه. في الحالة الأولى يكون الجيش في خدمة الدولة، وفي الثانية يكون في خدمة النظام الحاكم، وشتان بين الأمريين، في الأولى يكون من الصعب للغاية أن يطلق الجيش النار على المتظاهرين، بل يعتبر أن واجبه هو حماية تحركاتهم السلمية. وفي الثانية يرى الجيش أن مصالحه ترتبط باستمرار النظام الحاكم، ويكون على استعداد لمواجهة المتظاهرين وإطلاق النار عليهم.
يمثل الجيشان التونسي والمصري نموذجا للجيوش المحترفة، فمنذ استقلال تونس حرص الرئيس بورقيبة على تأكيد الطابع المدني للدولة وعلى إبعاد الجيش عن الأمور السياسية، لذلك لم تشهد تونس أي انقلاب عسكري، وعندما اندلعت المظاهرات لم يتدخل لقمعها، بل كان دوره حماية حدود البلاد ووحدتها الوطنية في هذه الظروف، وعلى الرغم من أن الجيش المصري تدخل في السياسة في عام 1952، وكان كل رؤساء الجمهورية فيها من العسكريين باستثناء مراحل مؤقتة وانتقالية لا تزيد على العامين والنصف من أصل ستة وستون سنة، إلا أن الجيش لم يُصبح طرفا في العملية السياسية ولم يتم تسييسه واستمر في التزامه بالقواعد الاحترافية في نظُم التجنيد والتدريب والترقي، لذلك استطاع قادته تأييد الحركة الشعبية وتبني مطالب المتظاهرين في عام 2011 وكذلك في عام 2013.
أما في سوريا وليبيا واليمن كان الوضع مختلفا تماما، فجيوشها لم تكن جيوشا محترفة، بل تكونت على أسس قبلية وطائفية ومذهبية، واتجه ولاؤها لشخص الرئيس، لذلك عندما اندلعت الانتفاضات وقف الجيش السوري في صف النظام وقام بالتعامل العنيف مع المتظاهرين في المراحل الأولى للانتفاضة، وربط قادته مستقبلهم بمستقبل الحكم، لم يكن ذلك غريبا فالالتحاق بالكلية الحربية لم يكن متاحا لأي شاب سوري، بل تطلب الأمر أن يكون منضما إلى حزب البعث.
أما في ليبيا واليمن فقد انقسم الجيش وفقا لأسس قبلية ومناطقية، أو على أساس الولاء الشخصي لأحد القادة السياسيين العسكريين، وأصبحت الفرق والألوية العسكرية جزءا من الصراع السياسي ضد المتظاهرين أو بين بعضها والبعض الآخر.
وتشهد الموجة الثانية من الانتفاضات العربية نماذج متنوعة جديرة بالتحليل.
ففي السودان كان الجيش الركيزة الأساسية لنظام البشير لثلاثة عقود، واستمر في تأييده له في المرحلة الأولى من اندلاع المظاهرات حتى شعر قادته بأن الرئيس يضع الجيش في مواجهة عنيفة مع المواطنين، وإن ذلك سوف يكلفهم كثيرا من رصيدهم ونظرة الناس لهم، فحدثت عدة انقلابات على مستوى قيادة الجيش انتهت بإبعاد الجيش نفسه عن الرئيس، بل القبض عليه وتقديمه للمحاكمة، في الوقت نفسه بدأ في مفاوضات صعبة وشاقة مع القوى المدنية وجبهة التغيير تدخل فيها وُسطاء إقليميون، كان أهمهم: ممثل الاتحاد الأفريقي، وتم الوصول إلى تقاسم للسلطة على مستوى مجلس السيادة، والذي يقوم بمهام رئيس الدولة وتشكيل حكومة مدنية، تتمثل أهمية هذا النموذج في أنه انتهى بنوع من "الشراكة العسكرية-المدنية"، وإعطاء أحد العسكريين رئاسة مجلس السيادة في النصف الأول من المرحلة الانتقالية، مما يشير إلى قبول كل الأطراف بأن قضية الأمن والحفاظ على النظام العام ووقف الحروب الداخلية في عدد من المحافظات هي المهمة الأولى للنظام في هذه المرحلة، وأنها تمثل المقدمة الضرورية للاستقرار الاجتماعي والسياسي والتنمية الاقتصادية.
وتُقدم الجزائر نموذجا مختلفا، فقد لعب جيش التحرير الشعبي الدور الأساسي في مكافحة الاستعمار الفرنسي والحصول على الاستقلال، مما أعطى للجيش رمزية تاريخية متميزة. وجاء تدخل الجيش بقيادة هواري بومدين في عام 1965 ليكرس دور الجيش في الحياة السياسية من وراء ستار ودعم ذلك الدور الذي قام به الجيش في "العشرية السوداء" في حقبة التسعينيات، وفي ضوء هذا التاريخ يُمكن فهم موقف رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح وقيادات الجيش وحرصهم على الدعوة إلى انتخابات رئاسية في 12 ديسمبر المقبل، ورفض القبول بأي مرحلة انتقالية يتم فيها تفكيك الأبنية الدستورية والقانونية والمؤسسية القائمة، فمن ناحية لم يتدخل الجيش في البداية ضد المظاهرات واستمر في حمايته للمتظاهرين، ولكن تدريجيا ومع عدم تجاوب المتظاهرين مع مقترحات الجيش ورئيس الجمهورية المؤقت للخروج من الأزمة تغير الموقف، وتم القبض على عدد من زعماء الحركة الاحتجاجية وتفريق بعض المظاهرات إذا تجاوزت الحدود الجغرافية المسموح بها.
ومن ناحية أخرى في الجزائر أيضا، حرص الجيش على الالتزام بالدستور، وأعلن قايد صالح أنه ليس لديه أو لأي من زملائه طموحات سياسية، وصمم على إجراء الانتخابات بالمخالفة للشعارات التي أطلقتها المظاهرات، والمغزى هنا أن الجيش لم يكن لديه مانع من القبض على عدد من قيادات نظام بوتفليقة وأقاربه وتقديمهم للمحاكمة بتهمة الفساد، ولكنه لا يقبل مراجعة التركيبة السياسية للنظام ولدور الجيش في مناخ الانتفاضة الشعبية، وأن التغيير يكون وفقا للدستور ومن خلال المؤسسات القائمة، ويؤكد هذا أن أغلب المرشحين للانتخابات الرئاسية شغلوا مناصب قيادية في عهد بوتفليقة كرؤساء وزراء أو وزراء.
وتقدم لبنان نموذجا ثالثا، فقد أعلن قائد الجيش العماد جوزيف عون منذ البداية أن مهمته هي حماية المظاهرات والاعتصامات السلمية وعدم التدخل لتفريقها بالقوى، ومنع أي طرف حزبي من القيام بذلك، وإن كان الجيش تدخل في بعض الأحيان لفتح الطرق التي أغلقها المتظاهرون لتيسير حركة السيارات التي تنقل المرضى أو التي تحمل الغذاء والأدوية، وعلى الرغم من أن تركيبة الجيش لا تخلو من بصمات التمثيل الطائفي فإن ذلك لم يؤثر على سلوك الجيش اللبناني في الأزمة الراهنة وتصرفه كجيش وطني احترافي.
أما العراق فإنه شهد أكبر استخدام للعُنف في الموجة الثانية للانتفاضات، فتم استخدام الرصاص الحي في أكثر من مدينة، مما أدى إلى وقوع مئات القتلى وآلاف المصابين والجرحى، وإلى حين أن تنتهي لجان التحقيق من تحديد المسؤولين عن الأمر بإطلاق النار فإن كل الأصابع تشير إلى فصائل الحشد الشعبي المؤيدة لإيران، ويبدو أنها لم تتحمل الهتافات المطالبة بوقف التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للعراق ومطالباتهم بإنهاء المحاصصة الطائفية في النظام السياسي، وزاد من غضب طهران والحشد الشعبي أن هذه المطالبات جاءت من داخل البيت الشيعي، وفي المناطق التي تسكنها أغلبية شيعية.
لا يمكن فهم المعادلة السياسية في كل هذه الدول وغيرها دون أن نأخذ موقف الجيوش بعين الاعتبار، ولا يمكن التقليل من دورها في الحفاظ على مسيرة الانتفاضات وسلميتها، أو تحولها إلى عنف وحروب أهلية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة