عرش روما لمن يدفع أكثر.. مزاد علني على السلطة

في فجر القرن الثاني الميلادي، شهدت الإمبراطورية الرومانية حدثاً صادماً لم يُسجل من قبل: بيع عرش روما في مزاد علني، حيث تحولت السلطة العليا إلى سلعة تُباع لمن يدفع أكثر.
هذه القصة الاستثنائية تكشف كيف حوَّل الحرس البريتوري -قوة النخبة العسكرية المسؤولة عن حماية الإمبراطور ومؤسسات الحكم- النظام السياسي إلى سوق مفتوح، كاشفًا عن تفكك القيم السياسية وتحول السلطة إلى سلعة في أيدي الحرس البريتوري.
الفوضى تسبق المزاد: عام الأباطرة الخمسة
لم تكن عملية بيع العرش حدثًا منعزلًا، بل كانت ذروة سلسلة من الاضطرابات بدأت باغتيال الإمبراطور كومودوس عام 192م، وهو ابن الإمبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس.
وحكم كومودوس 12 عامًا اتسمت بالاستبداد والانحراف، حيث تخلى عن مبادئ والده وادعى الألوهية، مما أثار غضب النخبة والشعب، ليفتح اغتياله الباب لصراع دموي على السلطة، عُرف بـ"عام الأباطرة الخمسة"، وهو عامٌ من الفوضى (193م) تناوب خلاله خمسة حكام على عرش روما.
وسعى بيرتيناكس، الإمبراطور الثاني في هذه السلسلة، إلى إعادة التوازن المالي عبر خفض الإنفاق الباذخ على القصر الإمبراطوري، ومراجعة قوائم النبلاء الذين يستنزفون الخزانة، وإعادة توزيع الثروات على المواطنين العاديين.
لكن إصلاحاته اصطدمت بجدار من المصالح المتجذرة، خاصةً تلك المتعلقة بالحرس البريتوري، الذين اعتادوا على امتيازات مالية ضخمة مقابل ولائهم الهش.
وعندما اغتال الحرس البريتوري بيرتيناكس بعد 87 يومًا فقط من حكمه -انتقامًا لتخفيضه ميزانيتهم- لم يجدوا غضاضة في تحويل الإمبراطورية إلى سوق مفتوح. فالعرض الذي قدموه ("العرش للبيع") لم يكن مجرد خيانة، بل كان اعترافًا صارخًا بأن الولاء في روما لم يعد يُباع بالشرف، بل بالسيسترس، العملة الرومانية التي حكمت مصير الإمبراطورية.
المزاد: صراع بين الثراء والشرعية
في اليوم التالي لاغتيال بيرتيناكس، اجتمع قادة الحرس البريتوري في ثكناتهم الشمالية خارج روما، وقرروا تنظيم المزاد العلني. ووصل الخبر سريعًا إلى أذني اثنين من الأثرياء الطامحين:
تيتوس فلافيوس سولبيسيانوس، حاكم روما ووالد زوجة بيرتيناكس، الذي رأى في المزاد فرصة لاستعادة النفوذ عبر دفع 20 ألف سيسترس لكل جندي (ما يعادل راتب 5 سنوات).
وكذلك ديديوس جوليانوس، وهو ثري عجوز في السبعين من عمره، قضى حياته في جمع الثروة من خلال الصفقات المشبوهة والاستثمار في المقاطعات البعيدة، الذي قرر المجازفة بميراثه كله، مُقدمًا 25 ألف سيسترس للجندي، ليصل المجموع إلى 250 مليون سيسترس – مبلغٌ يكفي لتمويل حملة عسكرية كاملة.
وفي النهاية، فضل الحرس البريتوري صاحب الرشوة الأكبر، مُعلنين جوليانوس إمبراطورًا، رغم سخرية مجلس الشيوخ الذي وصف الصفقة بـ "فضيحة القرن".
العرش المشترى: سقوط إمبراطور بلا شرعية
واجه جوليانوس تحدياتٍ كارثية من لحظة توليه العرش فقد اكتشف أن خزينة الدولة خاوية بسبب حروب سابقة، في حين أمواله الشخصية -رغم ضخامتها- لم تكفِ للوفاء بوعده للحرس. وحاول تأجيل الدفع، لكن الجنود شعروا بالخيانة.
كما رأى القادة العسكريون مثل سيبتيموس سيفيروس (حاكم مقاطعة بانونيا) أن المزاد سلب منهم حقهم الطبيعي في اختيار الإمبراطور عبر القوة أو التفاوض.
ولم يستمر حكم جوليانوس سوى 66 يومًا. فعندما اقترب سيفيروس من روما بجيشه، تخلى عنه الحرس البريتوري وسلموه للإعدام. وقُطع رأسه في قصره، وألقي جثمانه في نهر التيبر، في حين أعلن سيفيروس نفسه إمبراطورًا جديدًا، مبتدئًا عهدًا دمويًا قضى فيه على كل منافسيه.
نهاية الحرس البريتوري
بعد استيلائه على الحكم، قام سيفيروس بحل الحرس البريتوري واستبدال جنود من أقاليمه به، لإنهاء نفوذهم في اختيار الأباطرة. كانت حادثة بيع العرش بمثابة ضربة قاتلة لسمعة الحرس البريتوري، حيث أثبتوا أنهم ليسوا أكثر من مرتزقة يبحثون عن أعلى سعر، وليسوا قوة مخلصة للإمبراطورية.
كان بيع العرش الروماني إحدى أكثر اللحظات إهانة في تاريخ روما، حيث أظهرت كيف تحولت السلطة الإمبراطورية إلى مجرد سلعة يتم شراؤها بالمال، بدلاً من أن تكون مُستحقة بالكفاءة أو الشرعية.
aXA6IDUyLjE1Ljk1LjE2OSA= جزيرة ام اند امز