درج استخدام تعبير "رجل الدولة" للإشارة إلى قادة يحكمون وفق مصالح دولهم العليا، متجاهلين معارك صغيرة أو أهواء عابرة بالداخل أو الخارج.
وقد قام الألمان في الحقبة الأخيرة بتعديل هذا التعبير ليكون "سيدة الدولة"، للإشارة إلى المستشارة "أنجيلا ميركل"، التي شغلت هذا المنصب عام 2005، وأُعيد انتخاب حزبها في ظل قيادتها أربع مرات، حتى إعلانها في 2017 عن رغبتها في اعتزال السياسة والتخلي عن رئاسة الحزب، وعدم نيتها الترشح مرة أخرى.
اتسمت هذه المرأة -التي نشأت في إحدى ولايات ألمانيا الشرقية- بسمات فريدة، فقد درست العلوم والطبيعة وحصلت على درجة الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية، وكان أول منصب سياسي لها عام 1990، عندما تولَّت مهمة نائب المتحدث الرسمي لأول حكومة ديمقراطية في بلادها بعد انهيار الحكم الشيوعي.
وفي العام نفسه، انتُخبت عضوة في البرلمان الاتحادي "البوندستاغ" بعد تحقيق الوحدة الألمانية، وحافظت على مقعدها فيه حتى الآن.
وفي حكومة المستشار هلموت كول، عُيِّنت وزيرة للمرأة والشباب عام 1991، ثم وزيرة للبيئة عام 1994.
وعلى صعيد النشاط الحزبي، تم اختيارها أميناً عاماً لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي عام 1998، فقامت بجهود مضنية لتطوير الحزب وأنشطته، ما أدى إلى فوزه في الانتخابات البرلمانية على مستوى الولايات، وتوليه الحُكم فيها.
وكان من شأن ذلك، انتخابها رئيسة للحزب عام 2000، فكانت أول امرأة ترأست حزباً سياسياً في ألمانيا.
وبعد خمس سنوات، قادت حزبها للفوز بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية الاتحادية، فأصبحت أول امرأة تتولى منصب المستشارية.
وعلى المستوى الشخصي، اتسمت "ميركل" بالرصانة والهدوء ووضوح الفكر والتوجه، وبالقدرة على التوافق مع الآخرين والاستفادة من آرائهم إذا وجدتها مفيدة وتخدم الصالح العام، وهو ما ظهر في فترة تحالف حزبها مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
من صفاتها أيضاً الهدوء والحسابات الدقيقة عند اتخاذ القرار واستشراف نتائجه، وعدم التردد أو الصلابة في تنفيذ ما تعتقد أنه الصواب.
وتجلت رباطة جأشها في لقاء لها مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي لم تكن تربطه بها علاقات ودية، فعندما مدت يدها له للمصافحة تردد بعض الشيء، فما كان منها إلا أن قالت بصوتٍ واضح: ألا تريد مصافحتي يا سيادة الرئيس؟.. فمد يده سريعاً.
وخلال سنوات حُكمها، كانت "ميركل" قوة فاعلة في السياسة الألمانية، واستطاعت أن تنقل حزبها من مواقفه المحافظة التقليدية ليقترب أكثر من تيار "الوسط"، واجتذب ذلك لصالحه فئات وشرائح اجتماعية لم تكن تصوِّت له من قبل.
وكان لها دور مماثل على المستوى الأوروبي، بحُكم أن ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في القارة.
ولتحقيق التوازن والاستقرار في أوروبا، حافظت "ميركل" على علاقة عمل وتعاون مع فرنسا، وعلاقات تواصل مع روسيا، فاستكملت خط أنابيب "نورد ستريم 2"، الذي يحمل الغاز من روسيا إلى ألمانيا وأوروبا، وذلك رغم الضغوط الأمريكية لوقف هذا المشروع.
تعرضت ألمانيا خلال حُكم "ميركل" لثلاث أزمات كبرى، نجحت في التعامل معها بأقل قدر من الخسائر.
الأولى، الأزمة المالية التي اجتاحت العالم عام 2008-2009، وكان قرار "ميركل" بضرورة اتباع سياسات تقشفية، وإجراء إصلاحات هيكلية في الاقتصادات الأوروبية، التي عانت بقوة من الأزمة، وأبرزها اليونان، التي صممت "ميركل" على قيام حكومتها بإجراء هذه الإصلاحات رغم المعاناة الاجتماعية المترتبة عليها كشرط لدعم برلين لأثينا.
والثانية، أزمة تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين -وغيرهم- وطرقهم أبواب ألمانيا عام 2015، واتخذت "ميركل" قرارها بقبول ما يزيد على مليون لاجئ.. وخلق ذلك جدلاً واسعاً في ألمانيا، واستغلت التيارات الشعبوية اليمينية هذا الموقف لتخويف الألمان من فقدان هويتهم وثقافتهم.
والثالثة، أزمة انتشار جائحة كورونا في عامي 2020-2021، والتي اتبعت ألمانيا إزاءها سياسة واضحة، فلم تتعرض لهزات صحية عنيفة كتلك التي واجهت فرنسا وإسبانيا وإيطاليا.
ودعَّمت "ميركل" إصدار الاتحاد الأوروبي ما سُمي بـ"سندات كورونا"، بهدف تحفيز اقتصادات الدول التي تأثرت بشدة من جرَّاء الجائحة.
في كل هذه الأمور، وضعت "ميركل" نُصب عينيها المصالح الاقتصادية الألمانية والحفاظ على معدلات نمو الاقتصاد الألماني باعتباره مصدراً رئيسياً لدور ألمانيا ونفوذها في أوروبا والعالم.
لقد استطاعت "ميركل" أن توطد أركان "الحُكم الرشيد" في بلادها، وأن تُشيع مناخاً من الاستقرار والأمان، وحافظت على "قيادتها العاقلة" رغم إغراء ظهور قادة شعبويين قاموا بإثارة عواطف شعوبهم كترامب في أمريكا وجونسون في بريطانيا.
لذلك، فقد استحقت أنجيلا ميركل بحق لقب "سيدة الدولة"، وأن تُوصَف بأنها "أقوى امرأة في العالم"، وبمُغادرتها السُلطة، تبدأ صفحة جديدة من تاريخ ألمانيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة