"ذبابة في الحساء" لتشارلز سيميك.. سيمفونية الشعر والمجاز
"ذبابة في الحساء"، عنوان السيرة التي كتبها الشاعر الأمريكي من أصل صربي تشارلز سيميك وترجمتها إلى العربية الشاعرة المصرية إيمان مرسال
ربما كان الشاعر الأمريكي من أصل صربي "تشارلز سيميك"، يمثل لجيلٍ كامل من الشعراء المصريين والعرب ما يمثله الكاتب والروائي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس لنظرائهم الروائيين. الرغبة في اقتناص المجاز وخلقه، الثورة على القوالب التقليدية والأطر المنغلقة والأساليب المكرورة، الفردية في تجلياتها الأعلى والأكثر طموحا ونزقا. كل ذلك مما توفر في كتابة سيميك وأعماله الشعرية والنثرية على السواء. الانتشار الذي حظيت به أعمال "سيميك" والإقبال على ترجمته وقراءته جعلته من الأسماء الجاذبة دائما بين ما تقدمه الترجمات العربية.
"ذبابة في الحساء"، عنوان السيرة التي كتبها تشارلز سيميك وترجمتها إلى العربية الشاعرة المصرية إيمان مرسال في 318 صفحة من القطع الصغير، عن دار الكتب خان بالقاهرة، وهي واحدة من السير التي يتوقف قارئها أمامها طويلا، يقرأها على مهل ويتأمل ما تقدمه من أفكار وتفاصيل وتجربة حياة استوعبت في أعطافها موهبة كبيرة صقلتها خبرات وتجارب أثمرت في النهاية منجزا إبداعيا ضخما ومتميزا، له حضوره وموقعه في المشهد الأدبي المعاصر.
يقول سيميك في كتابه: "علمتني حياتي أن التخطيط للمستقبل مضيعة للوقت. اعتاد أبي أن يسألني مازحاً: إلى أين ستهاجر المرة القادمة؟ ما زالت تجربة القرن العشرين في المنافى مستمرة. مَن هم مثلنا كانوا حيوانات تجارب. أغرب ما في الأمر، أن يقوم واحد من فئران التجارب بكتابة الشعر". الحرب لدى سيميك تنفي الطفولة تمامًا، والطفل الذي يولد وسط أصوات المدافع يتحوّل للكهولة سريعًا. كانت تجربة الحرب ومعاناة أهوالها من الضخامة بمكان في روح وعقل سيميك، طبعته بطابع تشاؤمي عميق ومزاج سوداوي أصيل.
من خلال التناولات الدقيقة للحياة وأزماتها، وتفاصيل الطفولة والانتقال من بلد إلى بلد، والرؤية التي تعددت تطورت بتعدد زوايا النظر والمرايا الإنسانية والفنية، تتبدى طبيعة الكتابة السيرية التي يقدمها سيميك في كتابه "ذبابة في الحساء"، كما يقدم ببراعة لا نظير لها دفاعا مجيدا عن فن الشعر وعن كتابته وعن الانشغال المعرفي والوجودي بهذا الفن، يرى سيميك أن الشعر لم يمت (ولن يتم له ذلك) يربط بين الجوهري في هذه الحياة وبين هذا الفن وجمالياته المتجددة، يقول سيميك:
".. أحد المآخذ الكبرى على الشعر، أو أحد أشكال جاذبيته الجليلة -على حسب وجهة نظرك- أنه يريد أن يحتوي كل شيء. إذا احتكمنا للمنطق العقلي البارد، فكتابة الشعر مستحيلة.
التكهنات بموت الشعر، التي نقرأها كثيرا، خاطئة تماما، مثلها مثل معظم تخمينات المثقفين في هذا القرن. يُثبت الشعر مرة بعد أخرى، أن نظرية جامعة مانعة عن أي شيء ما هي إلا نظرية تافهة. الشعر هو دائما سيمفونية القط تحت شباك الغرفة التي يُكتب فيها مسودة رسمية عن الواقع. ينتقد الأكاديميون الكاتب، على سبيل المثال، يقولون إن الشعر أداة أيديولوجيا الطبقة الحاكمة وإن كل شيء سياسي. جلادو آنا أخماتوفا هم قديسوهم الراعون. ولكن ماذا إذا لم يكن الشعراء مجانين؟ ماذا لو كانوا يمسكون بحسّ اللحظة التاريخية أفضل من الآخرين؟ بالتأكيد، يشتبك الشعر بالجوهري وبما يتم تجاهله في البشر، وتلك القيمة التي لا يمكن وصفها هي ما يضمن للشعر بقاءه. يقول إميل سيوران: "كي تنظر إلى ماهو جوهري.. استلق على ظهرك طوال النهار، وأنت تئن" الشعر أكبر من ذلك بالطبع، وهذه مجرد بداية للحديث عنه".
تشارلز سيميك، كاتب وشاعر ومترجم أمريكي من أصل صربي (1938 - ...) ولد في مدينة بلغراد بيوغوسلافيا السابقة. عاش سنين الكارثة التي حلت بأوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، خبر مآسي الحرب وكان في وسط الإعصار بالضبط، وهاجر بعدها في سني مراهقته إلى أمريكا (1953).. وهناك واجه مصيرا صعبا حيث اضطرته ظروفة للعمل المرهق لتدبير معيشته وما تتطلبه الدراسة في الجامعة، فاشتغل بائعا للقمصان، ثم بائعا في متجر للكتب، وحين نشر أولى قصائده عام 1959.. لم يتمتع بنشوة النشر الأولى إذ وجد نفسه فجأة مدعوًّا للخدمة العسكرية في الجيش الأ مريكي، هناك حيث تعرضت تجربته الشعرية إلى تحولات شتى وضغوط نفسية شديدة. وبعد تجربة الخدمة في الجيش وبإصرار كبير أصدر بعد تخرجه في جامعة نيويورك 1966 مجموعته الشعرية الأولى "ما الذي يقوله العشب؟" عام 1967.
بلغت كتبه أكثر من عشرين مجموعة شعرية وكتب أخرى تضم مقالاته، وبحوثه. كان شعره سوداويًا، وهو ما نتج عن تجربته الإنسانية والضغوط الصعبة التي تعرض لها في بداية حياته.
من كتبه المنشورة: "محيطي الكتوم" 2005، و(قصائد مختارة 1963- 2003) وقد حصلت هذه المجموعة على جائزة جريفين الدولية للشعر عام 2004، وسرعان ما جذب المزيد من الاهتمام النقدي وخصوصا عند نشره قصائد له بالإنجليزية وترجمات شعرية لشعراء يوغسلاف. نال شعره جوائز عديدة أخرى، منها: جائزة البوليتزر لعام 1990 عن ديوانه "العالم لا ينتهي: قصائد نثر" وجائزة " والاس ستيفنز" عام 2007. وانتخب لمنصب شاعر الولايات المتحدة عام 2007.
"ذبابة في الحساء"، واحد من الكتب الممتعة، ينضم لعدد من الكتب الرائعة في مجال السيرة الذاتية التي عملت الكتب خان على إخراجها في السنوات الأخيرة.