ومع أول تصريح لبايدن بخصوص الملف النووي الإيراني، ظهر الأمر على غير ما تمناه نظام ولاية الفقيه، فالزمن ليس هو الزمن، و"بايدن الرئيس" لن يكون مثل "بايدن نائب الرئيس".
الملف الإيراني النووي كلمة السر التي أدار بها النظام الإيراني علاقاته مع أمريكا والغرب منذ ما بعد 2003 حتى هذه اللحظة.
فُتح الملف في لحظة الخوف الإيراني الأكبر إبان احتلال العراق في 2003، واكتشفنا بعد كل هذه السنوات الطويلة أن الملف بُنيت استراتيجيته على محورين:
الأول: فكرة الإلهاء، وكانت موجهة إلى الأمريكيين، تحديدا بعدما أشيع وانتشر أن الدور سيكون على إيران بعد إسقاط نظام صدام حسين، وبالتالي تولد لدى النظام الإيراني يقين بإطالة أمد الحرب والاقتتال في العراق، لذا تحولت المعركة بين الأمريكيين وبقايا نظام صدام إلى معركة بين الأمريكيين والإيرانيين على الأراضي العراقية، وانتهى الصراع لصالح الإيرانيين بعد قرار أوباما غير المدروس بسحب القوات الأمريكية من العراق عام 2014 وما فعله "قاسم سليماني" من تأسيسه للأذرع الإرهابية في العراق وسوريا واليمن.
المحور الثاني: كان موجها إلى الغرب، وهو سياسة الحلب والمقايضة والمراوغة، إضافة إلى الخوف من امتلاك إيران سلاحا نوويا، وخوف آخر من أن تمتلك سلاحا باليستيا أيضا.
وكأن الإيرانيين صنعوا لكل فريق فزاعة لتخويفه، ثم يدخلون معهم في تفاوض حول هذا الأمر.
ظل الملف يتعكز على هذين المحورين حتى وصل إلى 2015 حين أدار أوباما اتفاقه الشهير مع الإيرانيين بشراكة غربية وحضور صيني روسي، جاء الاتفاق على أساس ضمان الطابع السلمي للمشروع النووي الإيراني، ورفع العقوبات الإيرانية والأوروبية فور التأكد من سلمية المشروع.
ثلاثة أعوام مرت على هذا الاتفاق، غادر أوباما في 2016، تم تجميد الاتفاق، هاجمه ترامب ثم انسحب منه فعلا في 2018، ودخل الاتفاق إلى مرحلة الموت السريري منذ 2018 حتى تلك اللحظة.
رغم تمسك الأوروبيين بالاتفاق وحرصهم عليه فإن جميع الأطراف تعاملت معه كأنه مات ودفن، خصوصا الجانب الإيراني الذي كسر جميع ما اتفق عليه، وأصبح لديه أكثر من اثني عشر ضعفا من اليورانيوم عالي التخصيب، تبعا لما ذكرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقريرها السنوي.
إذ تخطت حدود التخصيب وهي درجة 3.67%، ولم يعد التخصيب قاصرا على منشأة نطنز فقط، وإنما شمل جميع المفاعلات الموجودة في إيران.
فرض ترامب على النظام الإيراني سياسة الضغط الأقصى الذي استمر وازداد خلال العامين الماضيين حتى وصلت إلى ذروتها في الشهور القليلة الماضية، لم تتوقف العقوبات على النظام بل طالت مؤسسات وأفرادا، ونجحت تلك السياسة الضاغطة في إفراغ الخزينة الإيرانية.
خسر "ترامب" وفرح النظام الإيراني بفوز بايدن، باعتباره من رائحة الحليف أوباما "طباخ الاتفاق الإيراني النووي".
لكن ومع أول تصريح لبايدن ظهر الأمر على غير ما تمناه الإيرانيون، فالزمن ليس هو الزمن، وبايدن الرئيس لن يكون مثل بايدن نائب الرئيس، حتى لو جاء أوباما نفسه لن يكون مثل أوباما السابق.
التأييد الأمريكي الذي صنعه أوباما لتوقيع الاتفاق الإيراني تغير، وأصبح كل الجمهوريين ضد العودة للاتفاق، بل بات الاتفاق نفسه سيئ السمعة بالنسبة لأي رئيس أمريكي أو حتى مسؤول، لأنه يمثل سقطة لنظام سابق، ومن الغباء تكرار السقطات والأخطاء.
أما الشركاء الأوروبيون فهم أيضا في مأزق شديد، مأزق يتعلق بخوفهم من الصواريخ الباليسيتة ومن رعونة النظام الإيراني الذي أقدم على خطف عدد من السفن الأوروبية في مضيق هرمز ومجرى الملاحة المائي في الخليج العربي.
وبات الحديث عن الاتفاق يتحرك على عدة فرضيات:
أبرزها نسفه كاملا وإعادة التأسيس لاتفاق جديد، حتى لو تضمن بعضا من بنود الاتفاق السابق أو توسيع الاتفاق بناء على زيادة الشركاء.
وهذا هو الجديد، فلم يعد الأوروبيون والأمريكيون هم الشركاء فقط، وإنما أضيف إليهم شركاء جدد هم من يمثلون القلق الإقليمي من التصرفات الإيرانية، وهم أهل الجوار العربي الذين تضرروا كثيرا خصوصا بعد توقيع الاتفاق. بالتالي قد نصبح أمام اتفاق جديد نهائي عنوانه "الاتفاق الإيراني الإقليمي الدولي" تتوسع فيه الشراكات وتتوزع فيه الالتزامات على إيران.
أول تلك الالتزامات ستكون الإقليمية منها، وهنا نحن أمام ضمانات في التغيير بل التوقف الكامل عن سياسة إثارة القلاقل ونشر الإرهاب والتوقف الفوري عن تربية الأذناب والأذرع الإرهابية وتفكيك ما هو قائم في العراق ولبنان واليمن وسوريا والعراق.
قد يرى كثيرون أن تلك الالتزامات قد تكون مستحيلة في ظل تركيبة النظام الإيراني التي ازدادت شراسة وتشددا.
الالتزام الآخر سيكون أمريكيا، وسيتحرك على محورين، الأول أن تتوقف إيران عن استهداف مصالح أمريكا في المنطقة وحلفائها، وأن تقدم ضمانات حاسمة لأن يكون البرنامج النووي سلميا فقط.
أما الشركاء الأوروبيون فسيركزون على ضرورة التوقف عن تطوير منظومة الصواريخ الباليسيتة، بالإضافة إلى سلمية البرنامج النووي، هنا ستكون الوكالة الدولية للطاقة الذرية هي الشريك والراعي الأساسي، بالإضافة إلى الصينيين والروس الذين هم دائما في صف الجانب الإيراني.
ومع تغير الزمن والأحداث ما عاد الروس والصينيون كما في السابق، فتغير المصالح والأولويات سيتبعه تغير في أشياء كثيرة.
في المحصلة كل الكرات ستقف أمام شباك النظام الإيراني إما تدخل وتتحقق الأهداف، وإما تُرفض؛ فتعود المباراة إلى نقطة البداية الأولى، وهذا متوقع خصوصا في ظل بعض تصريحات مسؤولي النظام الإيراني، الذين كرروا مرارا أنهم لن يتراجعوا قيد أنملة عما حققوه في التخصيب، بل استبقوا فوز بايدن بالمطالبة بتعويض عن العقوبات الأمريكية قبل رفعها، ثم الحديث عن العودة إلى الاتفاق الإيراني النووي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة