استيقظ العراقيون فجأة على قرار خفض سعر صرف الدينار العراقي، وأصيبوا بصدمة نقدية لم يعهدوها منذ عقود.
كانوا متوهمين أن عملتهم وصلت إلى شاطئ الاستقرار، ولن تشهد التقلبات التي عرفها دينارهم سابقا، مما ولد في أعماقهم ردود فعل انفعالية وعاطفية جعلتهم يطلقون موجة من التغريدات انتقدوا فيها القرار الحكومي بكثافة، ومنها تصدر هاشتاغ #مصارف_الحرامية، حساباتهم على تويتر كما خرجت التظاهرات احتجاجا على هذا القرار الذي أصاب الطبقات الفقيرة التي تعاني من الأزمة الاقتصادية الحالية وزادتها بلة عملية تخفيض سعر الدينار أمام الدولار، حيث يعيش خمس العراقيين تحت خط الفقر.
ولو راجعنا تاريخ الدينار العراقي لوجدناه يمثل تاريخ العراق، بكل تقلباته وعواصفه، حيث تقلبت أحواله مع تقلبات فصول الصيف والشتاء والخريف والربيع، وأول آثاره هجران القطع المعدنية من المسكوكات واختفاؤها من التداول حتى تسيدّت العملة الورقية في الساحة. ومن المعروف، أن الدينار مر بعهود سياسية مختلفة، إذ بقي العراق يستخدم الأوراق النقدية العثمانية طوال أربعة قرون من 1534 إلى 1920، حتى مجيء الاحتلال البريطاني الذي استبدل هذه العملة بالعملة الهندية المتمثلة بالآنة والروبية المعدنية، والتي تحمل على وجهها صورة الملك البريطاني جورج الخامس لتكون العملة الوحيدة المتداولة بنوعيها الورقي والمعدني.
وفي الثلاثينيات من القرن الماضي، صدرت مسكوكات من القطع النقدية من جميع الفئات، وحملت صورة وجه الملك فيصل الأول، وطبعت في بريطانيا. وبعد مرور عام، تم إصدار الدينار العراقي الذي ارتبط بالجنيه الاسترليني ثم تقرر ربطه بالدولار الأمريكي دون تغيير بقيمته. وبعد حرب الخليج الثانية وبسبب عقوبات الأمم المتحدة لم تعد إصدارات الدينار السابقة والمطبوعة في الخارج متوافرة، وهي المعروفة باسم الدينار السويسري. وتم إصدار عملة ورقية جديدة تحمل صورة الملك غازي الأول، ومن ثم صدرت عملات تحمل صورة الملك فيصل الثاني. ومع العهد الجمهوري، انخفضت قيمة الدينار العراقي وتدهورت بعد الحرب العراقية الإيرانية، حتى وصلت قيمته إلى مستويات متدنية، وعادل الدولار الأمريكي الواحد 3 آلاف دينار في عام 1995. وبعد سقوط نظام صدام حسين، قامت سلطة الائتلاف المؤقتة بإصدار دينار عراقي طُبع في مطابع ديلارو في بريطانيا ذات مواصفات يصعب تزويرها، واقترب العراقيون من حلم استقرار دينارهم.
هكذا هي رحلة الدينار العراقي من القمة حتى ما وصل إليه من تاريخ مضطرب دائم لم يهدأ يوما، وأسباب انهياره معروفة في الوقت الحاضر، وهي في الدرجة الأولى الاعتماد على الاقتصاد الريعي وترهل جهاز الدولة بالموظفين والمتقاعدين ما جعل الحكومة تفقد سيطرتها على الدينار العراقي كما هو الحال في فقدان سيطرتها على السلاح والاقتصاد، ولا علاقة لهذه الأزمة الاقتصادية بجائحة كورونا أو بانخفاض أسعار النفط كما تحاول الحكومة تبرير أزماتها في عجزها عن إيجاد الحلول منذ 2003.
ويأتي تخفيض سعر الدينار العراقي الأخير، بقرار من وزير المالية وبالاتفاق مع الأحزاب الحاكمة، معللا ذلك بتطبيق الورقة الإصلاحية البيضاء وكأنها عصا سحرية، أي رفع سعر صرف الدولار إلى 1450 دينارا بعد أن كان 1120 دينارا معتبرا إياه سعرا معتمدا للبيع من وزارة المالية إلى البنك المركزي، والترويج على أن هذه الورقة الإصلاحية لقيت الدعم من الدول الكبرى وصندوق النقد والبنك الدوليين. والسبب الجوهري لهذا التخفيض يعود إلى اقتراض وزارة المالية من المصارف وإعادة خصمها لدى البنك المركزي وبمبالغ كبيرة، بحجة دفع الرواتب، وتلبية الاحتياجات الإنفاقية الأخرى المتعلقة بالخدمات المقدمة للمواطنين المنعدمة أساسا.
وما يزيد الأزمة الراهنة حقيقة أن العراق يستورد جميع سلعه واحتياجاته تقريبا، ويسدد المدفوعات بالدولار. وفي ذلك، يتوهم البنك المركزي أن السعر الجديد سيعالج الأزمة أي سيكون بمثابة توازن لتلبية احتياجات الحكومة من السيولة من دون دراسة الأسباب الجوهرية للتدهور الاقتصادي الكبير الذي يعاني منه الاقتصاد العراقي، ودون إسناد الوظائف الحساسة في المالية والبنوك إلى الخبراء المتخصصين في هذا المجال. ولطالما نبهت هذه الكفاءات والخبراء إلى ضرورة الابتعاد عن الاقتصاد الريعي والتوجه نحو الزراعة والصناعة ودعم الشركات الصغيرة وغير ذلك.
إن تخفيض الدينار لن يساهم في تحقيق التنمية التي تفتقر إلى الخطط العلمية، بل من شأنه أن ينهك كاهل العراقيين ويزيد من متاعبهم في ظروف يتم فيها تهريب الدولار إلى إيران، إذ ساهم ذلك في تفاقم الأزمة بعد فرض العقوبات عليها، وإيران هي المستفيدة الوحيدة من هبوط الدينار العراقي أمام الدولار.
ويخشى العراقيون أن يستمر ارتفاع قيمة الدولار إلى أرقام قياسية، وهنا يعيد التاريخ نفسه، أي تلوح في الأفق عودة شبح أيام الحصار على العراق، فقد تعقدت ظروف الإنسان العراقي، وماضي الانهيار الاقتصادي في الأمس القريب مازال حاضرا، ومن الممكن أن يصبح الدولار يساوي قرابة ثلاثة آلاف دينار، بعد أن كان الدينار العراقي يساوي ثلاثة دولارات أمريكية في السبعينات والثمانينات. ولا توجد أية ضمانة مستقبلية لإيقاف تدهور الدينار العراقي.
مما لا شك فيه، أن تخفيض سعر صرف الدينار العراقي له انعكاسات سلبية على المواطن والاقتصاد على حد سواء لأن الدينار فَقدَ 20 ٪ من قيمته، فيما السوق المحلية تعتمد على السلع المستوردة، مما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار الذي سيزيد بدوره من أعداد العراقيين الذين يعيشون دون خط الفقر حيث تتحقق مقولة ماركس: الفقير يزداد فقرا والغني يزداد غِنى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة