العلم نور .. شعار نردده جميعاً، ويعنى أيضاً أن الجهل ظلام، وهى استعارة منتشرة فى جميع الثقافات.
العلم نور .. شعار نردده جميعاً، ويعنى أيضاً أن الجهل ظلام، وهى استعارة منتشرة فى جميع الثقافات. فالمعرفة تساعد الإنسان على رؤية الأشياء على حقيقتها، ولهذا ربط أفلاطون وأرسطو بين المعرفة والسعادة، واعتبرت الأديان أنها بهدايتها للبشر تنقلهم من الظلمات إلى النور. ومن هنا تكون الحاجة إلى التنوير نزوع راسخ فى الطبيعة البشرية. والسعى إليه يكون اختياراً فردياً، كل حسب طاقته وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم.
مصطلح التنوير الذى بدأ انتشاره مع بداية الحداثة فى القرن الثامن عشر وانتقل من أوروبا إلى ثقافات الأرض المختلفة يعنى شيئاً آخر. فهو حركة تكافح ضد التجهيل. إذ يوجد تخطيط متعمد يهدف إلى نشر الجهل والخرافة فى المجتمع ويفسر الظروف الإنسانية بوصفها نتيجة لأسباب تخرج عن سيطرة البشر، فهو تفسير يزود الانسان بوعى زائف. هذا التجهيل ليس إرادة شيطانية تريد بالبشر الشر بلا مبرر، ولكنه إرادة سياسية تسعى إلى فرض تالطاعة والخضوع على الناس وتجعلهم يقبلونها فى استسلام. ولدى البشر نزوع دائم إلى التحرر، وإذا صاغوا، فى وقت معين، لأنفسهم مبررات تجعلهم يقبلون القهر والاستغلال، فإنهم يتمردون عليها بعد ذلك. التنوير الحديث ليس مجرد نشر للمعرفة الحقة والصحيحة فى مواجهة الجهل والمعرفة الزائفة، وانما هو مشروع يهدف إلى إعادة صياغة لعلاقة الإنسان بنفسه أولاً ثم علاقته بالآخرين، وأخيراً علاقته بالسلطة السياسية.وهذا المعنى كان واضحاً عند مؤسس تيار التنوير الفيلسوف الإنجليزى جون لوك، فهو يصف إسهامه قائلاً: أنا لست إلاجامع قمامة أرفع المخلفات والنفايات من طريق المعرفة. وحينما أراد أن يترجم ذلك سياسياً أنتج فكرتين رئيسيتين هما: العقد الاجتماعى، والعلمانية. وينطلق مشروعه من أن الناس أحرار، ودور التنوير هو وضع حدود لسلطة الدولة حتى لا تجور على حرية الأفراد. ومن هنا فالسلطة تستمد شرعيتها من الشعب وليس من الحق الإلهي، وعلى الدولة أن تقف على الحياد بين الأديان المختلفة التى يؤمن بها المواطنون. أى ببساطة تتجلى مهمة الدولة فى مراقبة احترام الافراد للعقود فيما بينهم ولكن لا دخل لها فى المذهب الذى يختاره المواطن ليضمن الدخول إلى الجنة. وهكذا مع جون لوك لم يعد التنوير مجرد رطانة عن العقلانية والحرية والثقافة العلمية ولكنه تقنين لوضع سياسى محدد.
وفولتير رغم إعجابه الكبير بجون لوك رأى أن المشكلة ليست فى السلطة السياسية وانما فى الجماهير، ورجال الدين الذين يزرعون التعصب فى قلوبهم. بل إن الحاكم حين يتخذ قرارا يتسم بالتعصب فليس ذلك إلا خضوعها للجماهير أو إرضاء لها. مثل قرار التطهير الدينى الذى اتخذته السلطة الفرنسية فى القرن السابع عشر بطرد مليون مواطن بروتستانتى فرنسى إلى البلاد المجاورة، ونظرا لارتفاع مستواهم التعليمى كان ذلك من حسن حظ الجيران وضربة قاسية للمجتمع الفرنسي. ومع ذلك فالناس ليسوا أشراراً بطبيعتهم ولكنهم وقعوا ضحية فى يد من يستغل جهلهم. ولهذا على الدولة أن تفتح أمام الجماهير سبل التعلم وتحصيل المعرفة، وتحمى المفكرين الاحرار من بطش المتعصبين. ولهذا بدأ فولتير ظاهرة كتاب الجيب، صغير ورخيص الثمن، وانشأ ديدرو الموسوعة التى تعرض جميع أنواع المعرفة والفنون بلغة مبسطة للمواطنين. وفى ألمانيا تحمس الفيلسوف كانط للتنوير، ولكنه تساءل عن الغاية منه. واعتبر أن التنوير هو قدرة الإنسان على أن يفكر بنفسه دون وصاية من أحد، وأطلق عليه سن الرشد. فالانسان الذى يسلك سلوكا بناء على أمر أو فتوى يعتبر نفسه غير مسئول عن عواقب فعله. فى حين أنه حينما يتروى ويفكر بحرية ويقوم بالفعل انطلاقا من ضميره الشخصى فإنه يتحمل مسئولية فعله. وحينما يصل المواطنون إلى هذه الدرجة من الاستقلالية فى التفكير، فإنهم يكونون أحراراً ومسئولين، وبهذا نستطيع أن نصل إلى رأى علم غير متعصب أى إلى جمهور رشيد، ونظام حكم رشيد فى الوقت نفسه. حينما ننظر إلى ظروفنا الحالية فى مصر، وحينما نأخذ بعين الاعتبار طموحات الأفراد فى الحرية والعدل والكرامة، كما تعبر عنها شعاراتهم السياسية، فإننا ندرك بالفعل أننا فى حاجة إلى التنوير. وإذا ما أدركنا أن تكرار الكلام عن العلم والعقلانية والمواطنة والتسامح ليس معناه أننا بذلك ننشر التنوير، فإننا نتساءل أى نوع من التنوير يصلح لنا؟ ربما نشعر مع كل فيلسوف من هؤلاء الفلاسفة أنه يشخص بدقة أزمتنا الراهنة فى مصر، ولهذا فنحن فى حاجة إلى هذه الدروب جميعها، ولا مفر من أن نسير فيها معاً بشكل متواز،وهذا هو عين ما قامت به بقية الثقافات الأخرى غير الأوروبية .
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة