في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أطلقت حركة حماس عملية «طوفان الأقصى»، تضمنت وابلاً من الصواريخ باتجاه إسرائيل
وتمكن مسلحوها، في هجوم مباغت، من اختراق السياج الحدودي في أماكن متعددة، وتغلبوا على الدفاعات العسكرية الإسرائيلية، وتسللوا إلى غلاف غزة ومدينة عسقلان. وما لبثت إسرائيل، لأول مرة منذ 50 عاماً، أن أعلنت الحرب على غزة، وفرضت حصاراً شاملاً على القطاع، وقطعت عن سكانه الكهرباء وإمدادات الغذاء والوقود، ولاحقاً الاتصالات والإنترنت.
لقد شكلت عملية «طوفان الأقصى» هجوماً غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ بسبب السرية الكاملة التي أحاطت بالتخطيط له، وعدم قدرة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بل والأمريكية، على توقعه، وشدة الهجوم من حيث عدد الصواريخ التي تم إطلاقها من قطاع غزة، واتساع نطاقه (غلاف غزة ومدينة عسقلان)، والأعداد الكبيرة غير المسبوقة من القتلى (أكثر من 1400 قتيل)، والجرحى (أكثر من 3000)، والأسرى والرهائن (أكثر من 239) من الإسرائيليين.
بيد أن الرد الإسرائيلي، الذي تمثل في القصف المستمر لقطاع غزة من الجو والبر والبحر كان أشد عنفاً وأوسع نطاقاً وأوسع تدميراً، خلف حتى 29 أكتوبر/تشرين الأول أكثر من عشرة آلاف قتيل ومفقود، و21 ألف مصاب، جلّهم من النساء والأطفال، في غزة. وفي الضفة الغربية، ارتفع عدد الضحايا إلى أكثر من ثلاثة آلاف بين قتيل وجريح. ولا تزال الحرب مستعرة، بفعل تكثيف الهجمات الإسرائيلية الجوية والبحرية والمدفعية على كافة أنحاء قطاع غزة، وبدء الجيش الإسرائيلي المرحلة الثانية من الحرب، وهي العملية البرية «المحدودة»، للقضاء على المقاومة، ولاسيما حركة حماس، وتحرير الأسرى والمحتجزين. ولا تزال الاشتباكات مندلعة بين الفصائل الفلسطينية والقوات الإسرائيلية التي تقتحم قطاع غزة من محاور متعددة، ولا تزال الأزمة الإنسانية تتفاقم في القطاع المنكوب.
تلك كانت المشاهد الأساسية للحرب الحقيقية في غزة. ولكنْ ثمة حرب، بل حروب أخرى تدور رحاها في الفضاء الإعلامي والعالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي، محورها القطاع الفلسطيني المنكوب أيضاً، وتضرب في اتجاهاتٍ شتى، ليس هنا مجال التفصيل فيها كلها. غير أن ثمة ملمحَين لهذه الحرب أو الحروب «الإعلامية والافتراضية» يتطلبان التوقف والتعليق.
الملمح الأول هو ما يُشبه حرب القبائل بين العرب، وكأن بعض العرب هم الذين يقصفون منازل غزة ومساجدها ويقتلون أطفالها وحرائرها، أو -على الأقل- يُسهمون في ذلك. وكأن بعض العرب هم الذين يحرضون فصائل المقاومة الفلسطينية، وخاصة حماس، على الانتحار بمواجهة «الوحش» الإسرائيلي ونحر أهل غزة في سبيل بطولات وهمية و«شو» إعلامي زائف. وكأنّ بعض العرب أصبح أداة تحركها أيادٍ خارجية في الشرق والغرب أو في تل أبيب وكأننا، ويا لسخرية التاريخ، أصبحنا فسطاطين: فسطاط الحق والمقاومة، وفسطاط الباطل والخنوع والخيانة وفي هذا الظرف التاريخي الدقيق والأليم، نحن العرب في حاجة، أكثر من أي وقتٍ مضى، إلى التكاتف والتعاضد والوحدة، وليس إلى تبادل الاتهامات، والتراشق بالتعميمات، وتصفية الحسابات التي ضرها أكثر من نفعها. ألم نتعلم درس التاريخ بعد: أنَّ ضعفَنا وهواننا على الناس مصدرهما الأساسي فرقتنا وتناحرنا فيما بيننا؟
الملمح الثاني هو سيل التضليل والحقائق البديلة الناجم عن حرب العرب الأخرى «الإعلامية والافتراضية» بخصوص مواقف دولٍ معينة أو أشخاص محددة. وقد نالت دولة الإمارات وقيادتها الرشيدة حظها من هذا السيل الذي لا يزال يحمل زبداً سيذهب جفاءً عندما تضع الحرب أوزارها، ويتبين للناس المواقف الإماراتية على حقيقتها من حرب غزة، ومن الصراع العربي-الإسرائيلي برمّته.
ولن أتورط في حرب العرب الأخرى هذه بالمنافحة عن موقف بلادي، ولكني أشير إلى أن أهل غزة ليسوا في حاجة إلى حربٍ افتراضية أو إعلامية، وإنما في حاجة إلى مساعدات إنسانية وإغاثة فورية، ووقف هذه الحرب المجنونة عليهم.
لقد دعت دولة الإمارات إلى اجتماعٍ طارئ لمجلس الأمن الدولي، الذي اجتمع فعلاً الاثنين المنصرم، لبحث تصاعد الحرب في غزة، وجدّدت طلبها بوقف إطلاق النار فوراً، وذكّرت العالم أن 70% من القتلى في غزة هم من النساء والأطفال. أذكر ذلك، ولو شئت لذكرت غيره الكثير؛ لأنبه إلى أن يساعد كل منا إخواننا في فلسطين، كلٌّ حسب قدرته، بلا مزايدة أو تخوين. فما فلسطين في أمسّ الحاجة إليه هو وحدة مواقفنا خلف أبنائها، وتوجيه حربنا أو حروبنا «الإعلامية والافتراضية» إلى جلادها وليس إلى بني جلدتها من العرب.
* نقلا عن صحيفة الخليج الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة