تثير الحرب الدموية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والتصعيد الخطير الذي بدأه الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، عند وضعهما ضمن إطار تحليلي أوسع للسلوك الإسرائيلي خلال سنوات الصراع الطويلة مع الشعب الفلسطيني، ملاحظة جوهرية، تشير إلى دلالات مهمة
ولكي يكون إطار التحليل الزمني محدداً وواضحاً، فهو لا يمتد إلى بدايات القرن العشرين حيث اندفع التدفق اليهودي إلى الأراضي الفلسطينية تحضيراً لإقامة "الدولة اليهودية"، بل يبدأ قبل عام من إعلانها في 15 مايو/أيار 1948، وبالتحديد مع ما يسمى في هذه الدولة "حرب الاستقلال" التي بدأت عام 1947.
فهذه الحرب كانت في حقيقتها أوسع عملية تهجير واستيطان عرفها العالم خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، حيث دفعت العصابات الصهيونية المسلحة وبعدها الجيش الإسرائيلي بقوة السلاح والمذابح، نحو 750 ألف فلسطيني خارج أراضيهم بما يمثل حوالي 60% من إجمالي الشعب الفلسطيني حينها، ليتم الاستيلاء على كل أراضي بلدهم فلسطين عدا الضفة الغربي وقطاع غزة، لتقام عليها "الدولة اليهودية" الموعودة.
وبعد "النكبة" الأكبر التي أصابت الشعب الفلسطيني في تلك الحرب، طافت بعقول النخب الصهيونية التي أقامت "الدولة اليهودية" وتولت حكمها، خيالات الشعار الوهمي الذي أقاموا عليه دولتهم في فلسطين، وهو أن أرضها هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وأنه لا قيام للشعب الفلسطيني بعدها، فقد انتهى الصراع والغزو والاستيطان بنصر نهائي حاسم لبناة "الدولة اليهودية" على من أصبحوا خارج أرضهم وخارج التاريخ، أي الشعب الفلسطيني.
ولكن ما هي إلا شهور قليلة حتى فوجئ هؤلاء بعمليات فدائية يقوم بها بعض من أبناء هذا الشعب انطلاقاً من الحدود الأردنية والسورية، والأكبر والأهم من قطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية وبتشجيع ودعم كامل منها، وهو ما كان سبباً مباشراً في اشتراك إسرائيل في العدوان الثلاثي عليها عام 1956 مع بريطانيا وفرنسا.
ولم تكد سنوات ستينيات القرن الماضي تنتصف، حتى أخذت «المقاومة الفلسطينية» شكلها الأحدث والأقوى مع انطلاق أول وأكبر تنظيماتها وهي حركة فتح ثم منظمة التحرير الفلسطينية والتي ضمتها مع شقيقاتها الأخريات من حركات المقاومة المتعددة.
وخلال هذه السنوات الممتدة منذ إعلان قيام "الدولة اليهودية" وحتى حرب يونيو/حزيران 1967، اكتشف مجتمع ونخبة هذه الدولة أن "نهاية الشعب الفلسطيني" وخروجه من التاريخ، لم يكن سوى وهم زائف ليس له في الواقع أي علامة.
وعاد الوهم مرة أخرى، لوهلة قصيرة، بعد نجاح إسرائيل في احتلال ما تبقى من أرض فلسطين في تلك الحرب بما فيها القدس الشرقية، وكانت معركة الكرامة في مارس/آذار 1968 هي إشارة البدء في ظل الواقع الجديد، لمقاومة فلسطينية تتابعت أشكالها ومنظماتها وأجيالها، واستمرت بلا توقف حتى يومنا هذا.
لقد قتلت العصابات الصهيونية و"الدولة اليهودية" من أبناء الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 وحتى اليوم بأقل التقديرات قرابة 150 ألفاً، وانتفض هذا الشعب مرتين كبيرتين وعشرات المرات الأصغر، وتعرضت غزة وحدها لـ6 حروب قبل الحرب الحالية، واجتاحت إسرائيل لبنان كله عام 1982 لتطرد منه منظمة التحرير الفلسطينية وكل فصائله، ثم قامت أجهزة أمنها باغتيال عشرات من قياداتها وقيادات الفضائل الأخرى، واعتقلت منذ حرب يونيو 1967 ما يزيد عن مليون فلسطيني.
وفي ظل كل هذا حافظ الشعب الفلسطيني على وجوده وهويته الوطنية سواء في أرضه التاريخية أو خارجها، ليتضاعف عدده عشر مرات منذ عام 1948، ليصل اليوم إلى نحو 14 مليون شخص، واستطاع أن يبتدع ويمارس كل أشكال المقاومة المسلحة والسلمية دون توقف مقدماُ كل الأثمان الفادحة البشرية والمادية التي يستحقها إصراره على البقاء والحفاظ على هويته الوطنية وسعيه للحصول على حقوقه المشروعة.
هذه هي الملاحظة الجوهرية التي تبدو في هيئة حقيقة راسخة طوال ثلاثة أرباع القرن من تاريخ الشعب الفلسطيني، وهي أنه لم يخرج من التاريخ، ولم يتنازل عن حقوقه المشروعة، وأنه لم – ولن يتوقف أبداً عن مقاومة المحتل مهما بلغت التضحيات والخسائر، وأن وضع حرب إسرائيل الدموية الحالية على غزة ضمنها، يفضي إلى أنه مع دمويتها ووصولها لحد الإبادة الجماعية، فهي لن تكون في النهاية سوى حرب أخرى على هذا الشعب الذي لن يكون فيه أبداً "آخر فلسطيني".
diaarashwan@gmail.com
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة