هذه الأكاديمية التي امتدت على مدى ثلاثة أيام.. أصبحت شخصياً بعدها أكثر معرفة بالعالم
هذه الأكاديمية التي امتدت على مدى ثلاثة أيام أصبحت شخصياً بعدها أكثر معرفة بالعالم، وبما يمكن أن يستجد فيه مما كنت عليه من معرفة من قبلها، إنها أكاديمية اسمها المعلن «القمة العالمية للحكومات» يرعاها، مع حفظ الألقاب، الشيخ محمد بن راشد، رئيس وزراء دولة الإمارات وحاكم دبي. خلية من النحل تحيط بالتنظيم، معظمهم من بنات وأبناء الإمارات من الشباب، باسمين للضيوف الذين بلغ عددهم هذه المرة أربعة آلاف ضيف، منهم أكثر من الثلث من العاملين المواطنين في دولة الإمارات.
لا يستطيع متابع أن يحيط بكل ما كان يقال بسبب كثافة البرنامج في هذه القمة، ولا حتى بجله، بدا لي شعار القمة لافتاً؛ فقد قال: «إن التغيير إن لم تقُده أنت فسوف يقودك»، أي لك الخيار، إما أن تبادر وتساير التغيير وتوجهه، أو إنه قادم وسوف يُفرض عليك!
في هذا الفضاء العربي المدلهم، والمليء بالحروب والنزاعات وتقسيم الأوطان، والتهجير واستدعاء الأجنبي، وخراب المدن والقرى، وتشتيت البشر، وتسميم عقول بعضهم، والقلق العميق المحيط بكل ذلك، تبدو دبي وكأنها «خيط فضي» من بين خيوط قليلة فضية في فضائنا العربي، يبشر بغدٍ أفضل ويبنى على رافعة ثقافية متميزة.
القمة شاركت فيها مائة وأربعون دولة، وشهدها رئيس جمهورية الهند، وهي ضيف الشرف لقمة 2018، واثنا عشر رئيس حكومة، وكوكبة من أفضل المتخصصين في العالم في العلوم الطبيعية والتطبيقية والاجتماعية، من الشرق والغرب. ما قيل يقود إلى إجبار المرء على التفكير في المستقبل بجدية يشوبها قلق مخلوطٌ بانبهار! في الثلاثين سنة المقبلة سوف يشهد العالم تقدماً تقنياً وعلمياً، الكثير مما شهدته البشرية في الثلاثة آلاف عام المنصرمة! التليفون النقال الذي بين أيدي الجميع اليوم، هو كجهاز كومبيوتر، أفضل مما توافر لمؤسسة «ناسا» عندما أطلقت إنساناً إلى القمر! وتتسارع الأرقام والمعلومات والأفكار، في تلك الخلية الأكاديمية المنظمة بدقة الثواني، من جلسة إلى أخرى، تسمع الجديد الذي بدأ في عالمنا بالفعل، أو الذي يوشك أن يبدأ. قلت لا يمكن أن يحصَر كل ما قيل، سوف أركز على اهتمام واحد، أجد أن له معنى اليوم وفي المستقبل، هو التعليم والاستثمار في رأس المال البشري، وقد حاز أكثر من جلسة، منها الذي ينظر إلى التعليم في العالم، ومنها الذي قدمه الشيخ عبدالله بن زايد، وعبّر عنه، إنه قفزة مرجوة لتجويد التعليم في الإمارات.
في هذا الفضاء العربي المدلهم، والمليء بالحروب والنزاعات وتقسيم الأوطان، والتهجير واستدعاء الأجنبي، وخراب المدن والقرى، وتشتيت البشر، وتسميم عقول بعضهم، والقلق العميق المحيط بكل ذلك، تبدو دبي وكأنها «خيط فضي» من بين خيوط قليلة فضية في فضائنا العربي، يبشر بغدٍ أفضل ويبنى على رافعة ثقافية متميزة
قال المتحدث: قبل أن أبدأ أريد أن أعرض عليكم بعض الصور، وأسألكم سؤالاً واحداً! وعرض صورتين؛ واحدة كتب عليها «مستشفى عام 1900»، وأخرى كتب عليها «مستشفى عام 2018»، والسؤال كان، لو قدر لكم دخول مستشفى اليوم، فأي واحد سوف تختارون؟ بالطبع كانت الأيدي قد رفعت مشيرة إلى الثاني! ثم قال المتحدث، إن نسبة الشفاء في المستشفى الثاني، هي أقرب إلى تسعين في المائة، لسبب واضح هو التقدم العظيم في العلم الطبي، وما جاوره من علوم! حتى الآن الأمر يبدو طبيعياً، في القاعة، ثم عرض الباحث صورتين أخريين، لمدرسة كتب عليها «مدرسة عام 1900»، وأخرى كتب عليها «مدرسة عام 2018»، ترى أي مدرسة تختارون لأبنائكم اليوم؟ سأل مقدم الحديث، أشارت الأيدي إلى الثانية، طبيعي! هنا المفاجأة، علوم الطب تغيرت بشكل ثوري في المائة سنة الأخيرة، ولم تتغير علوم التعليم! في الغالب التعليم اليوم يشابه كثيراً تعليم قرن مضى؛ لذلك فإن التخلف أو التقدم يبدأ بتطوير التعليم، الذي يتحدث عنه الجميع وما زال مستعصياً! يجهل البعض أن نصفاً أو أكثر ممن هم على مقاعد الدراسة من أبنائنا اليوم سوف يعملون في وظائف غير معروفة اليوم! كثيراً مما نعلّمه اليوم لطلابنا بالطريقة التقليدية، سوف تقوم الآلة بفعله، ويصبح غير ذي جدوى، سوف تترجم الآلة، وتكتب أبحاثاً علمية، وتتواصل مع الآخرين، سبع وأربعون في المائة من الوظائف اليوم سوف تختفي في المستقبل إلى الأبد من تاريخ البشرية، وقتها سوف تكون الشركات العملاقة أقوى من الحكومات، كما أن النصر والهزيمة للدول سوف يحدثان بشكل أسرع مما عرفناه حتى اليوم، ومجال المعركة هي العلم والرقمنة. تعليم الأجيال الجديدة لعالم الغد هو التحدي الأكبر، ويجب أن يأخذ منحى مختلفاً كلياً عما هو قائم اليوم، سيكون السباق بين الأمم، ليس بقوة النيران التي تملكها جيوشها، بل بسبب العقول التي يملكها بشرها جراء التدريب والتعليم الأفضل.
أربع ركائز يعتمد عليها تعليم أفضل، الأولى وعي متخذ القرار بأهمية التعليم المُجوَّد في عالم اليوم المتغير بشدة، وتوفير الموارد له، والثانية الرؤية في برامج التعليم، ومنها اعتبار المعلم «أهم ركيزة في العملية كلها» يفاجئنا الشيخ عبدالله بالقول إنه لأول مرة «أصبح هناك في الإمارات رخصة للمعلم»! أي لا يمارس عمله إلا بها! وثالثة الركائز الهدف الواضح من التعليم، ليس «محو أمية أبجدية كما هو اليوم»، بل إعداد الجيل لمواجهة تحديات قادمة، والرابعة اعتبار التواصل الحي والدائم بين المتعلم وبيئته من أجل تعميق التفكير النقدي! ربما نحتاج أيضاً إلى إضافة شعار يطبّق في هذا المجال، هو «فك الارتباط بين الشهادة والوظيفة»! كل ذلك يحتاج إلى إرادة سياسية، فإن توافرت توجهنا إلى الطريق الصحيحة للمستقبل، وإن افتقدت فإن الطريق إلى «الكارثة» محققة!
نحن في عصر الثورة الصناعية الرابعة، وفي عصر «الذكاء الصناعي» الذي وصفه أحد المحاضرين بأنه أهم اكتشاف منذ أن اكتشف الإنسان النار! كل تلك الخطوات الجبارة التي تتقدم إليها الحضارة الإنسانية تحمل في الوقت نفسه مخاطرها؛ فالمخاطر القادمة للبشرية يمكن تلخيصها في ثلاثة، من بين عدد آخر من المخاطر؛ الأول، ضمور «الكلية» والتوجه إلى التعددية، أي الانقسام في الدول «بريطانيا تنسحب من التجمع الأوروبي، إقليم كتالونيا في إسبانيا يزحف نحو الانفصال، بعض أجزاء إيطاليا وعدد آخر من الدول تتوجه إلى ذلك المسار، في العالم والإقليم، كما الانقسام فيما بين الثقافات والأعراق». والثاني عدم عدالة التوزيع «الثروة والمعرفة» بين البشر، ليس من حيث الكم، بل أيضاً من حيث الكيف، والثالث مخاطر أمن المعلومات! والأخيرة هي الأدهى؛ إذ يمكن أن تسبب كوارث، فقد تفلت منك قيادة سيارتك، وأنت على الطريق السريعة؛ لأن بعضهم عبث بكومبيوتر التوجيه، أو قد تتوجه طائرة إلى مكان غير ما تقصد بسبب تدخل غير حميد عن بعد في برنامج القيادة، أو قد تختل عملية جراحية لأن البعض قد غيّر عن بعد البرنامج الإلكتروني المعد، أو تتدخل مؤسسة أو دولة «عن بعد» في نتائج المقترعين في عملية الانتخاب! والأكثر من ذلك أن ملايين من البشر يجب إعادة تدريبهم على أعمال جديدة، لأن الذكاء الاصطناعي قذف بهم إلى خانة البطالة! على ما يفرزه الافتراض الأخير من فوضى اجتماعية هائلة يمكن تخيلها!
عندما نتعرف على تلك الحزمة من «المشكلات» و«الفرص» التي تفرضها الثورة الصناعية الرابعة على الإنسان، فإن التساؤل الواجب.. ما نوعية القيادات المطلوبة لمسايرة ذلك التغيير الهائل؟ وما المجتمعات والدول التي سوف تقود؟ وما مواصفات المجتمعات والدول التي سوف تنقاد؟
القيادة المستقبلية لها مواصفات، من أهمها «الوعي بالمتغيرات والاستجابة لها بشكل علمي»، الفرق بين من يقود ومن يقاد، والذي أكدت عليه قمة الحكومات 2018 يكمن في نوعية التعليم والتدريب المتاح للقيادات، الذي ينظر إليه البعض في فضائنا العربي وكأنه ثانوي، ويقول البعض تسويفاً «عندما ننهض اقتصادياً سوف ننظر في تطوير التعليم»! أفكار خاطئة في الأساس، كوضع الحصان خلف العربية! التعليم هو القاطرة إلى المستقبل، ومجتمعات القرية والفقيرة تحتاج إلى تعليم نوعي وحديث؛ فأضخم دخل في العالم اليوم قائم على البرمجة «تعليم التقنية»، فثروة المستقبل قائمة على البيانات، جمعها وتصنيفها وبيعها! ومن يتجاهل ذلك يتجاهل المستقبل.
الحديث حول ما قيل في القمة كثير، وما أرجوه أن توضع تلك المحاضرات «صوتاً وصورة» على الفضاء الإلكتروني؛ للإفادة منها لمن يرغب في الإطلال من تلك النافذة الراشدة إلى حديقة المستقبل، أما أنا فأقول شكراً لرئيس الأكاديمية وفريقه، لقد تعلمت.
آخر الكلام
الثورة التقنية الهائلة سوف تجعل المجتمعات أكثر ديمقراطية «بمعنى وصول واستخدام المعلومات ورخصها» للجميع، وتجعل المجتمعات في الوقت نفسه أكثر قمعية، بمعنى أن حكومات سوف تستخدم تلك التقنية من أجل تعزيز سيطرة «الأخ الأكبر».. الموضوع برمته يحتاج إلى نقاش نقدي!
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة