لم يسلم النظام العالمي من الاهتزاز، ولا من الانشقاق حول ما يجب وما لا يجب عمله للتعامل مع جائحة كورونا.
تصير الأزمنة تاريخا حينما ترتبط ليس فقط بأحداث كبرى، وإنما عندما تضع البشر في مفترق طرق بين خيارات عظمى تصبح موضوعا لمناظرات تشكل خاتم المرحلة. العام الذي تولى كان من هذا الزمن، وكما هو الحال في الأوقات الصعبة فإنها لا تختفي ولا تتلاشى ولكنها تسير معنا لأعوام تالية. وفي العام المنصرم كانت السمة العامة هي "الجائحة" التي فرضت نفسها على الأحوال كلها في السياسة والاقتصاد والمجتمع وحتى المزاج العام بصعوده وهبوطه.
لم يسلم النظام العالمي من الاهتزاز، ولا من الانشقاق حول ما يجب وما لا يجب عمله، ووراء ذلك كانت هناك رؤى متعارضة لم تنتهِ أي منها إلى نهاية حاسمة، والمرجح أن هذه الحالة من الحيرة لن تختفي مع ميلاد عام جديد. المناظرة الأولى التي دارت كانت تمثل معضلة أخلاقية حول الاختيار بين حياة المواطنين أو الحفاظ على حالة فاعلة للاقتصاد الذي هو ضروري لسلامة الحياة العامة كلها.
ثلاث نظريات حكمت النقاش العام في هذه المناظرة؛ الأولى جعلت الفرد في المقدمة رغم الخسارة الاقتصادية الفادحة، وطالما أن المال لا يعطي الحياة، فلن يربح الإنسان لو كسب العالم وخسر نفسه. وتأتي أولوية الإنسان على الاقتصاد لأنه بدون إنسان معافى ليس هناك اقتصاد، والتركيز على الإنسان باعتباره محور التنمية، فبدونه تتوقف عجلة الإنتاج والتجارة والزراعة، والأمن، والتعليم، والصحة. والثانية أعطت الأولوية للاقتصاد على حياة البشر، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أكبر الاقتصادات العالمية، خاض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غمار معركة شرسة من أجل فتح الاقتصاد الأمريكي ضد حكام الولايات المطالبين بالتمهل، لتفادي حدوث كارثة صحية. والثالثة طرح أصحابها فكرة التعايش مع الفيروس، وتأمل من خلالها الحكومات في التحكم في عملية انتشار كورونا، والتدخل لتحديد البؤر ومعالجة المصابين والمرضى ومراقبة الحاملين للفيروس، وفي الوقت نفسه الإرجاع التدريجي لعجلة الاقتصاد.
هنا طرح المحللون فكرة اقتصاد كورونا وعلم اقتصاد الأوبئة، لأن محاربة الوباء يجب ألا تكون متناقضة مع الاقتصاد، بل محاربة الوباء عمل اقتصادي، والقضاء على الوباء قبل الاقتصاد مفيد، لأن التحفيزات الاقتصادية مهما كان حجمها لن تكون ذات جدوى، لأن الناس خائفون من الخروج.
المناظرة الثانية استندت إلى مدى كفاءة النظم السياسية المختلفة للتعامل مع الوباء وعما إذا كانت النظم الديمقراطية أكثر استعدادا للتعامل مع الوباء أو تلك الاستبدادية سواء من زاوية التعامل المباشر مع الوباء أو من زاوية اكتشاف اللقاح والدواء الذي يوقف انتشاره. ورغم أن المناظرة كانت عامة لجميع الدول، فإنها كانت بشكل خاص قائمة بين الولايات المتحدة والصين، اتهمت الأولى الثانية بـأنها خدعت العالم، ما جعل الوضع أسوأ؛ وبالتالي يكون العلاج المناسب المزيد من الشفافية، والكشف الكامل عن الحقائق الذي هو السمة العامة للنظم الديمقراطية.
ومع صعود الصين في مكافحة تفشي الوباء دوليا، نافست النظام الدولي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة، عندما أعلنت الصين انتصارها على فيروس كورونا الجديد، وبدأت في إغلاق مستشفياتها المؤقتة، وإرسال المعدات الطبية والخبراء إلى بلدان أخرى. والحقيقة هي أن السجل التاريخي لا يظهر علاقة قوية بين الفاعلية ونوع النظام. في حين أن بعض الأنظمة تعاملت بشكل جيد مع الوباء مثل سنغافورة، ولكن أداء البعض الآخر كان ضعيفا للغاية مثل إيران. وبالمثل، تعثرت بعض الديمقراطيات، مثل إيطاليا والولايات المتحدة، بينما كان أداء البعض الآخر مثيرا للإعجاب، مثل كوريا الجنوبية وتايوان.
المناظرة الثالثة قامت على المدى الذي تذهب إليه الدولة للتدخل لمواجهة "الجائحة"، وعما إذا كان "السوق" قادرا على تصحيح ذاته دون هذا التدخل. بشكل ما فإن المناظرة باتت بين النظم الرأسمالية وتلك الاشتراكية أو تلك التي تتدخل فيها الدولة لكي تقوم بتنظيم علاقات العرض والطلب دون تركها لآليات السوق الرأسمالية. وتداخل في هذه المناظرة المدى الذي يمكن أن تقيد من خلاله الدولة انتشار العدوى وتتمكن من مكافحة المرض. وقد عزز الوباء في الغالب الاتجاهات الديمقراطية السلبية القائمة، وزود الحكومات بحافز وعذر للتكتيكات المتبعة. وتحت مسمى إدارة المرض، نفذت الحكومات بالفعل أنظمة مراقبة وتتبع يمكنها أن تكون أسلحة قوية في المعركة للسيطرة على الفيروس.
المناظرة الرابعة دارت حول الكيفية التي تعمل بها النظم الديمقراطية أثناء مقاومة الوباء وعما إذا كان عليها إجراء الانتخابات العامة في موعدها، وهو استحقاق ديمقراطي مهم، أو أنه من الممكن تأجيلها لتفادي جموع المواطنين المزدحمة في مواقع الاقتراع، وهو ما يعرّض الديمقراطية ذاتها للخطر. فقد أصبح إجراء انتخابات منتظمة معضلة كبيرة، ولا تستطيع المعارضة القيام بحملة دعائية، مع وجود صعوبة في أداء مهام عمال الاقتراع والمراقبين، ولا يشعر عدد كبير من الأشخاص بالأمان عند الذهاب إلى صناديق الاقتراع، ولكن على الجانب الآخر فإن أنصار فكرة تأجيل الانتخابات يدفعون بأن التأجيل سوف يؤدي إلى إدامة الحكومات التي تحظى بشعبية في السلطة.
وجهة نظر ثالثة ترى تغيير إجراءات الانتخابات لتتماشى مع طبيعة الجائحة، وهو أمر يمكن تطبيقه في الديمقراطيات الراسخة، التي لديها الوقت والموارد لتغيير إجراءات الانتخاب، بحيث يمكن للناخبين التصويت بأمان من مسافة بعيدة، ومن خلال البريد، أو على الأقل في مراكز الاقتراع المجهزة بالكامل، والتي تم تطهيرها وتحديثها لاستيعاب المسافات البعيدة، ولكن هذه الفكرة واجهت معارضة من جانب الجمهوريين في الولايات المتحدة بقيادة ترامب بتحويل التصويت عبر البريد إلى قضية حزبية شديدة الالتهاب، على الرغم من الأدلة المقنعة على أنها لن تمنح أيا من الطرفين ميزة على الطرف الآخر. وما حدث فعليا في الولايات المتحدة أن قضية نزاهة الانتخابات ظلت مثارة حتى اللحظات الأخيرة من تبادل السلطة في الدولة، ووصلت إلى مستويات مختلفة من التقاضي أمام محاكم متنوعة، وهو ما سوف يلقي بظلال ثقيلة على النظام السياسي يتعدى كثيرا عام الوباء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة