هذا هو المقال الأوّل للعام الجديد، والذي يأمل المرءُ أن يكون عاما مملوءا بالابتسامات.
لا سِيّما بعد أن رَسَمَ 2020 الكثيرَ من علامات البؤس على الوجوه.
يتساءل المرءُ: من أين له أن يبدأ رؤيته للعالم على عتبات عام جديد، والجواب اليسير الذي لا يدانيه الشكُّ هو من عند ما خَلَّفَه العامُ السابق من ورائه؛ إذ إنّ التاريخ سلسلة مُتّصلة من الحلقات، لا تنفصل ولا تنفصم.
أوّل مَحَطّة من محطات العام الجديد، تتوقّف بالبشريّة برُمَّتِها عند ذلك الفيروس الشائه، الذي بَدَّلَ هناء العالم شقاءً وهَلَعًا. وعلى الرغم من الاكتشافات العلميّة المتمثّلة في أنواع مختلفة من اللقاحات، فإنّ الفيروس عينه يُناوِر ويُداوِر، متحوِّلاً ومتحوِّرًا إلى سلاسل أخرى ما أنزل اللهُ بها من سلطان، ولا يعلم أحدٌ إلى متى سيظل ممثِّلاً رعبًا للبشريّة، والذين استمعوا الأيّام القليلة الماضية إلى الطبيب الأمريكيّ المُكلَّف بالإشراف على ملفّ كورونا، أنتوني فاوتشي، ينتابهم ذعر شديد، فالرجل يتحدث عن الأسوأ الذي لم يأتِ بعد، وعليه تبقى البشريّة أسيرة هذا الفيروس، سواء من خلال الإغلاق الجزئيّ أو العامّ، أو من خلال التباعد الاجتماعيّ.
هل ستخرج البشريّةُ سليمة نفسيًّا من 2020 إلى 2021؟
علامة استفهام مقلقة جدًّا، فالإنسان كائن اجتماعيّ، ووسائل التواصل الاجتماعيّ لا تُوفِّر في حقيقة الأمر مناخًا إنسانيًّا يُعوِّض عن التلاقي البشريّ، ولهذا فإنّ أطبّاء النفس في العالم يتحدّثون عن حاجة الخليقة إلى عدّة سنوات للخلاص من التبعات المَرَضِيّة لكورونا.
على أنّ هناك تبعات أخرى قد تستمر لأكثر من ذلك بكثير، ونعني بها التبعات الاقتصاديّة؛ فقد تَسَبَّبَ كوفيد-19 في الكثير من السقوط الاقتصاديّ الحُرّ إن جاز التعبير. ويكفي أن يصغي المرءُ لتصريحات الرئيس العامّ للبنك الاتحاديّ الأمريكيّ، ليدرك الأزمة الاقتصاديّة التي تنتظر الولايات المتّحدة الأمريكيّة والعالم، ولا شكّ من خلفها.
ولعلّ من الدروس التي يتوجَّب على 2021 أن يتعلَّمها من 2020، درسًا بالغَ الأهمية، وهو أن الحياة على الكوكب الأزرق لم تعُدْ تستقيم من خلال منظور البراجماتيّة الذرائعيّة النفعيّة أحاديّة التوجُّه، كما أنّ النرجسيّة غير المستنيرة لم تعُدْ تُجدِي؛ فقد ضرب الفيروس العالم في أقصى الشرق الآسيويّ، وفعل فعله في أدنى الكرة الأرضيّة غربًا، ومن القطب الشماليّ إلى جنوب أفريقيا، وعليه بات مصيرُ البشريّة مثل رجال في قارب يحاولون عبور المحيط، وما عليهم سوى أن يُجَدِّفوا معًا في اتّجاهٍ واحد، وإن اختلفوا ابتلعتهم الهاوية ورَسَخُوا في قاع البحار.
يدخل العالم إلى عامٍ ميلاديٍّ جديد، وفي الخلفيّة الأمميّة شجارٌ ونقار، بل تشارع وتصارع حول مستقبل كوكب الأرض. وقد باتت التهديداتُ المناخيّة تتسبّب في هلاك الزرع والضرع عَمَّا قريب جدًّا، وعلى غير المُصَدِّق أن يرفع ألحاظَه جهةَ جبال الثلوج الآخذة في الذوبان والمتسبِّبَة في ارتفاع منسوب المياه حول العالم، بما يُهَدِّد بمزيد من إغراق الأراضي، وطَمْر البَرّ على حساب البحر.
في هذا الإطار، يتفاءل المرءُ بدخول الرئيس الأمريكي السادس والأربعين جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض؛ فقد وَعَدَ الرجلُ بأنّ أوّل قرار سوف يمهره بتوقيعه هو ذاك الخاصّ بعودة أمريكا إلى سِرْب الدول المُوَقِّعة على اتّفاقِيَّة باريس للمناخ، تلك التي انسحب منها سلفه دونالد ترامب، وإن كان السؤال: هل سيمضي بايدن فعلاً في هذا الإطار، أم أن جماعات الضغط الخاصّة بالفحم، وبما لها من سطوة في الداخل الأمريكيّ سوف تُثْنِيه عن عزمه، وتُجبِره على تغيير مساره؟
والشاهد أنّ ذكر الرئيس بايدن يقودنا إلى حال ومآل أمريكا، مالئة الدنيا وشاغلة الناس في العام الجديد؛ ذلك أنّها تخوض حربًا غير مسبوقة، العدوّ فيها ليس خارجيًّا، والأسلحة المُستخدَمة في الهجوم ليست صواريخ عابرة للقارات، ولا قنابل ذَرّيّة لا تُبقِي ولا تَذَر، وإنّما الأسلحة وسائط تواصل اجتماعيّ فَرَّقتْ الأمريكيّين إلى جماعتَيْن متقابلتَيْن، كلٌّ منهما تؤمن بأنّها صاحبة الحقيقة والأخرى مزورة.
أمريكا منقسمة تجاه ساكن البيت الأبيض، وهذه إشكاليّة كارثيّة؛ فهناك أكثر من خمسة وسبعين مليون أمريكي يؤيّدون الرئيس ترامب في دعواه بأن الانتخابات الرئاسيّة كانت مُزوَّرة، وهو حدث جَلَل لو يعلم القارئ.
ولعلَّ استرجاع بعض اللقطات من الصفّ الماضي، تُبَيِّن لنا أنّ هناك شرخًا عميقًا حدث في العمق الأمريكيّ، بين مَن يؤمنون بأنّ أمريكا بوتقة انصهار لجميع الأعراق والأجناس، وفريق آخر يرى أنّها لوحة فسيفساء، ينبغي أن يحتفظ فيها كلٌّ بِسِماته وملامحه ومعالمه، ومن غير أن يؤدّي ذلك إلى الانصهار.
والشاهد أنّ الولايات المتّحدة، وهي على عتبات العام الجديد، تجد أنّ أمامها من التحدّيات الكثيرَ جدًّا، والتي يمكن أن تؤثّر على أمن وسلام الكوكب برُمَّته. هل من مثال على ذلك؟
خُذْ إليك ما جرت به المقاديرُ الشهرَ الماضي، عندما هاجم قراصنة عبر الفضاء الافتراضيّ كلا من وزارة الخزانة ووزارة التجارة في واشنطن، وحتما بلغت الأيادي الخَفِيّة الكثيرَ من المنشآت الاستراتيجيّة الأمريكيّة، ولم يعلن الهاكرز ما الذي طالته أياديهم من أوراق ووثائق أمريكيّة مهمّة وخطيرة. وبالقدر نفسه، لم تُصَرِّح إدارةُ الأمن الوطنيّ بحقيقة ما جرى.
غير أنّ توجيه الاتّهام بشكل مباشر إلى روسيا، ومن فَمِ وزير الخارجيّة مايك بومبيو، ثم تصريحات بايدن نفسه ونواياه بالقصاص السريع والمريع من الذين تسبَّبوا في هذا الإرباك العميق للبلاد والعباد، إنّما يعني أنّ مرحلة مثيرة من عصر اللاوفاق سوف تُظَلِّل المساحة من جديد من واشنطن إلى موسكو.
هل أوضاع المسارات الأمريكيّة – الصينيّة أفضل من نظيرتها الأمريكيّة – الروسيّة؟
الجواب يحتاج إلى قراءة قائمة بذاتها، وإن كان الحالُ يُغْني عن السؤال. ويكفي القولُ بأنّ الأمريكيّين تشملهم فكرة الفيروس الصينيّ الذي أعادهم إلى الوراء عقودًا طوالاً.
2021 عامٌ مليءٌ بالمنحنيات، ولعلّ الأمل في النجاة من الفيروس الشائه هو أكثرها رغبةً، ولاحقًا رُبّما يَعِنّ للبشريّة التقاط أنفاسها وإعادة ترتيب أوراقها بعد أن تكون قد عَبَرت بحر الآلام والأوجاع، واكتشفتْ أنّ درس الأُخوَّة الإنسانيّة هو الوحيد القادر على استنقاذها والمُضِيّ بها نحو مجتمع أكثر إنسانويّة في أزمنة صعبة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة