تدخل تركيا عام 2021 مثقلة بالتحديات والأزمات، لا بسبب استمرار انتشار جائحة كورونا فحسب، كما هو الحال في معظم دول العالم.
بل بسبب السياسات التي اتبعها النظام التركي خلال الفترة الماضية، ولا سيما حروبه العدوانية التوسعية في ليبيا وسوريا والعراق والقوقاز والمتوسط، وهي حروب باتت تؤثر على الداخل التركي، محدثة المزيد من الأزمات المعيشية والاقتصادية والانقسامات السياسية والاجتماعية.
في مقدمة تحديات الداخل، تبرز قضية تفاقم المعاناة المعيشية، على وقع انهيار قيمة الليرة التركية أمام الدولار، وفقدان المواطنين الأتراك القدرة الشرائية، وإفلاس الشركات، وتوقف المشروعات الكبرى، وهروب الاستثمارات إلى الخارج، وفضائح الفساد وعائلة أردوغان، وتضاعف أرقام البطالة والتضخم والمديونية وفوائد الدين الخارجي، وتراجع التصنيف الائتماني من قِبل الوكالات الدولية، ولعل كل هذا دفع بالعديد من مراكز الدراسات في الغرب إلى إصدار تقارير تتنبأ بحدوث انهيارات كبرى في تركيا، تضع نهاية لنظام أردوغان.
وعلى مستوى حزب العدالة والتنمية الحاكم، لم يكن الوضع بأفضل، إذ شهد الحزب خلال العام الماضي انشقاقات كبرى، لعل أهمها انشقاق رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو وتأسيسه حزب المستقبل من رحم حزب العدالة والتنمية، وكذلك انشقاق العقل الاقتصادي التركي علي باباجان، وتأسيسه حزب الديمقراطية والتقدم، فضلا عن ترك أكثر من مليون عضو حزب العدالة والتنمية خلال العام الماضي، حسب تقارير تركية، في ظل التفرد المطلق للرئيس أردوغان بقيادة الحزب، إلى درجة أن قيادة الحزب باتت محصورة بالمقربين منه، وسط حديث عن صفقات مالية ضخمة مع رجال أعمال يعملون تحت راية حزب العدالة والتنمية.
في الداخل أيضا، تواصلت حملات القمع والاستبداد في كل الاتجاهات، من انتهاج أقسى الممارسات ضد الأكراد، حيث حملات القتل والاعتقال ورفع الحصانة عن النواب، وعزل رؤساء البلديات المنتخبين، إلى مواصلة ضرب أنصار الداعية فتح غولن، وصولا إلى حملات اعتقال الصحفيين وسجنهم، ومحاصرة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وحملات تصفية للضباط العلمانيين في صفوف الجيش، باختصار طالت حملات أردوغان كل مَن يناهض نظامه، أو ينتقده، أو مَن يعتقد أردوغان أنه يشكل خطرا على نظامه في المستقبل، وهو ما دفع بالعديد من المنظمات المعنية بالحريات إلى وصف تركيا بأنها أصبحت أكبر سجن للصحفيين في العالم، في وقت بات ملف المعتقلين السياسيين يثير أزمة في العلاقات التركية – الأوروبية، لا سيما بعد الحكم القطعي الذي أصدرته المحكمة الأوروبية العليا لحقوق الإنسان، الذي يقضي بالإفراج عن السياسي الكردي البارز صلاح الدين ديميرداش، ومن ثم إعلان أردوغان رفضه تنفيذ الحكم، بل والهجوم على المحكمة التي تعد تركيا عضوا فيها.
في الخارج، لا يقل الوضع سوءا، إذ إن تورط أردوغان في حروب كثيرة جلبت لبلاده المزيد من الأعباء والعزلة والمشكلات والتوتر، فعلاقات بلاده مع الدول العربية، باستثناء قطر والصومال وحكومة السراج في ليبيا، في أسوأ حالاتها، والأمر نفسه ينطبق على العلاقة التركية مع دول الاتحاد الأوروبي، بسبب التصعيد التركي في المتوسط ضد اليونان وقبرص، إذ إن تركيا التي كانت تسعى للانضمام إلى العضوية الأوروبية باتت في توتر شبه دائم مع الاتحاد الأوروبي الذي فرض عقوبات عليها، معلنا في الوقت نفسه أنه سيفرض المزيد من العقوبات القاسية على أنقرة، ما لم تتراجع عن سياستها العدوانية، والمهددة للأمن في المتوسط وأوروبا.
كما أن العلاقة مع الجانب الأمريكي في أسوأ حالاتها، إذ تفرض واشنطن للمرة الأولى عقوبات على الصناعات العسكرية التركية، في وقت تتفاقم الخلافات بين الطرفين، بعد أن ذهبت تركيا بعيدا في علاقتها مع روسيا، ومضت في إتمام صفقة إس – 400، وهاجمت مرارا الأكراد في سوريا حلفاء واشنطن والتحالف الدولي في الحرب ضد داعش، كما أن التصعيد التركي في المتوسط يزيد من توتر العلاقة مع واشنطن، كل ذلك بالتزامن مع قدوم إدارة أمريكية جديدة برئاسة الديمقراطي جو بايدن، الذي انتقد مرارا أردوغان وسياساته، متوعدا بدعم المعارضة التركية للتخلص منه في صناديق الانتخابات.
العلاقة مع روسيا، ورغم تشابك وتقاطع المصالح بينهما في عدد من القضايا فإنها تبدو أقرب إلى الكباش في ساحات سوريا وليبيا والقوقاز وأوكرانيا، وسط غياب للثقة، واستغلال متبادل للأوراق، وخشية متبادلة من أي تطور يؤدي إلى الانقلاب على التفاهمات بينهما هنا أو هناك.
ورغم كل هذه الأزمات، يكابر أردوغان ويحاول القفز من فوقها، والركض إلى الأمام، تارة بمواصلة استغلاله لقطر وحكومة السراج للحصول على المزيد من الأموال لتمويل حروبه، وثانية بخطب ود إسرائيل لتحسين العلاقة معها ومع الولايات المتحدة الأمريكية، وثالثة بإرسال رسائل إلى أوروبا يعرب فيها عن استعداده لفتح صفحة جديدة معها، ورابعة بمخاطبة الدول العربية، مبديا استعداده لإقامة أفضل العلاقات معها، بعد أن حوّل بلاده إلى ملجأ للتنظيمات الإرهابية، لا سيما الإخوان المسلمين، ودفعهم إلى ارتكاب الجرائم بحق بلدانهم وشعوبها.
وفي الداخل، من خلال العزف على موجة جديدة من الديمقراطية والإصلاح، وكأنه يعترف بأن السنوات الماضية من حكمه لم تكن فيها لا ديمقراطية ولا إصلاح، كما كان يقول على الدوام.. وهكذا يبدو المشهد التركي، في مطلع العام الجديد، مليئا بالتحديات والتناقضات، يحمل معه ملامح انفجارات كبرى في الداخل، وصدامات قوية مع الخارج، بما يوحي كل ذلك بنهاية عهد أردوغان، كما قالت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير لها قبل أيام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة