المحطة الحالية في المخاض العراقي الناشئ ليست إلا حلقة من سلسلة محطات لا بد من المرور بها وعبرها، ثم تجاوزها لاحقا وتجاوز آثارها الضارة.
الضبابية التي تلفُّ المشهد العراقي الراهن توحي للوهلة الأولى بأن ثمة حدثاً كبيراً يتربص به، كيانا ودولة ومجتمعا، ولربما كان هذا الانطباع أولياً لدرجة تسمح بالقول إن المخاض الذي يمر به قد يُنتج مولوداً مشوّها، لكنّ قراءة متأنية لإرهاصات الواقع الماثل تنبّئ بعدد لا محدود من البشائر المأمولة لاستعادة العراق عافيته بعدما أوجعته حروب الآخرين على أرضه، وآلمته تشظياتُها الداخلية، وعملت على تغريبه عن واقعه وعن هويته ومحيطه أطماعٌ خارجيةٌ ممثلة بإيران وأذرعها المليشياوية التي تتغلغل في البنية المؤثرة أمنياً واجتماعياً وحزبيا.
المحطة الحالية في المخاض العراقي الناشئ ليست إلا حلقة من سلسلة محطات لا بد من المرور بها وعبرها، ثم تجاوزها لاحقا وتجاوز آثارها الضارة. منذ عام 2003 والعراق يبحث عن منافذ للخروج من القيود التي تكبّله والتي أدت في فترات متعاقبة إلى استلابه ومصادرة قراره السيادي في الكثير من القضايا والمواقف الداخلية والخارجية، وكانت العقبةُ الكأداء نابعةً من ركيزتين متناغمتين مع بعضهما؛ الأولى خارجية متمثلة بالمشروع الإيراني وأطماعه التي تتجاوز حدود العراق، وتوظيفها ساحته لمصالحها بعد أن حوّلته إلى مسرح للمساومات والابتزاز عبر قوى محلية، والركيزة الثانية داخلية برزت بسبب وبفعل الركيزة الأولى من خلال تطييف طهران للعملية السياسية العراقية ولمجمل التحولات المجتمعية فيه، وتشكيلها أذرعاً مسلحة ومجموعات اعتبرت نفسها فوق القانون، وراحت تنفذ توجيهات إيران وتحقق أهدافها في مجمل المشهد العراقي الذي تحوّل في بعض الأحيان إلى كابوس يقض مضاجع العراقيين على مختلف مشاربهم.
هل يمكن القول إن ما يشهده العراق من تجاذبات بين رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي وبين المليشيات المسلحة غير الخاضعة لسلطة الدولة ما هو إلا جزءٌ من عملية رسم الخطوط بين هيبة الدولة وقوانينها الناظمة ودستورها الراعي لحقوق الناس كافة دون تمييز من جهة، وبين مجموعات مسلحة لا تأتمر بتلك القوانين وتعتقد أنها أكبر من الدولة، كياناً ودستوراً وقانوناً من جهة أخرى؟ هل تتوفر بين يدي الكاظمي أدوات عملية وخيارات مُحْكمة لفرض هيبة الدولة وقانونها على المجموعات المتفلتة من سقف القوانين والتي تبث رسائلها الاستعلائية بين فترة وأخرى إمعاناً في تمردها على سلطة الدولة ودون اكتراث وتقدير لمصالح العراق والعراقيين؟
التكتيك الذي ينطلق منه الكاظمي في محاولته ومسعاه لفرض سلطة القانون على الجميع تستند، كما يبدو حتى الآن، إلى مقاربات وتصورات ناتجة عن فهم دقيق وعميق لمحددات الوضع العراقي شديد التعقيد بسبب تداخل وتعارض وتناقض مصالح عدد غير قليل من اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، ويتحرك الرجل ضمن حساباته تلك بكثير من الإقدام المدروس، على المستوى الداخلي؛ حيث يُشْهر سلطة القانون وهيبة الدولة كمعيار للعلاقة بين الدولة ورعاياها، وعلى المستوى الخارجي؛ يباشر الانفتاح على محيطه العربي وعلى القوى الإقليمية والدولية انطلاقا مما تمليه مصلحة بلاده العليا ومقتضياتها بعيداً عن سياسة المحاور وتأكيداً منه على خطه الاستقلالي ونهجه التصالحي مع محيطه الخارجي على قاعدة الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
يدرك الكاظمي أن العراق بحاجة ماسة إلى القيام بمراجعة نقدية لمجمل سياساته وعلاقاته الخارجية أولا: مع محيطه ومع القوى الدولية الموجودة بطريقة أو بأخرى على الأراضي العراقية، وهو ما بدا واضحاً في تحركاته وزياراته الخارجية وإصراره على رفض استخدام بلاده ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية أو الدولية، كما يدرك أهمية صياغة أطر جديدة للعلاقات مع تلك القوى قائمة على الاحترام المتبادل كونها تسهم في فرض سلطته وسلطة الدولة على المجموعات الداخلية الخارجة عن القانون.
التحديات التي تواجه رئيس الحكومة العراقية لا تبدو سهلة، وكذا الوقائع على الأرض تتواتر ضمن سياق هذه التحديات، منها ما هو ناتجٌ عن محاولات مليشياوية لا تعترف بسلطة الدولة والقانون عليها وترفضها بل وتحاربها لأنها تَحُدّ؛ إن لم تكن تَقضي على مكاسبها ومصالحها الفئوية ومصالح رعاتها الخارجيين، ومنها ما هو مرتبط بمصالح ومشاريع وأطماع إيران التي تجد ضالتها في تكريس الواقع الذي أسهمت في تركيبه داخل المجتمع العراقي حزبياً وسياسياً وأمنياً، وغذّت جميع سياقاته المذهبية كي تضمن سيطرتها عليه وهيمنتها على سلوكياته وتحكّمها بتوجيهه بما يخدم مصالحها ويحقق أهدافها.
وحين يكرر الكاظمي بين الحين والآخر إعلانه البراءة من الانتماء لأي حزب ويؤكد استقلاليته؛ فهو يسعى لتحقيق غرضين: الأول التحرر من أسر القيود الأيديولوجية المذهبية والحزبية الضيقة، والغرض الثاني تأكيد وقوفه على مسافة واحدة من جميع القوى والتيارات الحزبية الداخلية العراقية بما فيها المليشيات متعددة الولاءات والمنطلقات والوظائف، ويرسم من خلال مواقفه ملامحَ مشروعه المنشود لدولة يحكمها القانون ويسودها العدل، وتستلهم من إرثها التاريخي ومقوماتها الحضارية والاقتصادية مداداً لبناء مستقبلها.
من الطبيعي أن تشكل المراحل التي مر بها العراق منذ عام 2003 وحتى الآن نموذجاً ومنهلاً لمقاربات الكاظمي، ومن الطبيعي أيضا أن تكون قراءته للتحولات الحاصلة في محيطه العربي والإقليمي والدولي نابعةً من رؤيته لموقعه وموقع بلاده وما ينشده من أهداف وطنية تعوق بلوغَها مشاريع خارجية المنشأ، داخليةُ الأدوات.
حتى الآن يبدي رئيس الوزراء العراقي مهارةً فائقة في عملية تدوير الزوايا التي يتّبعها حيال حالة التمرد المليشياوي في عموم العراق، ويظهر مستوى عاليا من الإدراك لمنابع وأصول ومسارات خيوط الشبكة الداخلية والأيادي التي تنسجها وامتداداتها، ويتعاطى معها كأمرٍ طارئ لا كأمرٍ واقع، وبِهَدْيِ هذا الفهم والإدراك تمكّن من تجنّب الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع قادة تلك المليشيات، وجنّب مؤسستَه العسكرية والأمنية الرسمية الانجرار إلى مواجهتهم، وظل متمسكاً بأولوية الغطاء القانوني لجميع شرائح المجتمع العراقي تحت سقف الدولة وسلطتها السيادية، وأظهر في كل منعطف، بصرف النظر عن طبيعته وخطورته، التزاماً صارماً بقراره المستقل، وتصميماً على إجهاض محاولات إبقاء العراق ساحةَ صراع وتصفية حسابات إقليمية ودولية.
تحولاتٌ وتحديات عديدة لازمت مسيرة العراق والعراقيين على مدار نحو عقدين من الزمن، وأحدثت شروخاً عميقة في بناه الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية، ويبدو أن وقت تحويلها إلى فرص واعدة للاستقرار واستعادة سيادة الدولة والقانون قد أزفت إذا ما أحسنت الطبقةُ السياسية الحاكمة في العراق استثمارها عبر خلخلة بنى القوى الفئوية ثم تفكيكها، وحصر سلاح المليشيات بيد الدولة، وفرض هيبة الدولة عبر القانون الذي يجب أن يصون سيادة البلاد ويحميها، ويجرّم أي فعل أو تعامل مع طرف خارجي دون مرجعية وطنية ممثلة في السلطة العليا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة