لم تكن الطائفية موجودة في المجتمع العراقي فيما سبق الاحتلال، لكنها أصبحت سلاحا للحكم وأداة عقاب لكل مَنْ يعارضها.
هل النظام السياسي الذي تأسس بعد عام 2003 صالح للعمل به في الوقت الحاضر؟ هل يعمل في خدمة المواطن أم في خدمة الطبقة السياسية والأحزاب الدينية التي تأسست في إيران؟ هل هناك نهاية معينة للفساد؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت تدور في ذهن الرئيس العراقي برهم صالح، وهو يدق ناقوس الخطر، داعيًا إلى عقد سياسي جديد يؤسس لدولة ذات سيادة كاملة، ولم ينتهِ الأمر عند ذلك، فقد أجابه رئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور برزاني، بعدم قبول حكومته استخدام حقوق شعب الإقليم ورقة ضغط سياسية.
هذه التصريحات من قِبل القائدين الكرديين تؤدي إلى إحداث شرخ كبير في أوساط الطبقة السياسية الحاكمة، خاصة تلك التي تعمل من وراء الكواليس، لسبب بسيط لأنها لا تزال تصرّ على السير على المنهج ذاته رغم خروج المظاهرات والاحتجاجات المطالبة بفكرة التغيير، لكن هذا التغيير سيكون وبالاً عليها، خاصة إذا ما فكرت الدولة ظاهريا بخطة لسحب السلاح المنفلت من المليشيات الداعمة لإيران والمدعومة منها، وإعادة الأموال المسروقة إلى خزينة الدولة العراقية من أجل التخفيف من الأزمات التي تتوالى الواحدة بعد الأخرى، ولعل أحدثها تخفيض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار، ما سينهك الطبقات الفقيرة، إضافة إلى جائحة كورونا التي خرجت عن السيطرة في هذا البلد، وهو عجز آخر يضاف إلى كيانه الضعيف.
لا يتعلق الموضوع بالإصلاح، بل بالخلل البنيوي في النظام وطريقة الحكم، كما حددها الرئيس العراقي في كلمته، وهي تأتي كأنها صرخة أخيرة قبل الموت.
ماذا يعني الخلل البنيوي؟ هذا المصطلح الفلسفي يعني الشلل في وظائف القلب لجسد الإنسان، أي أن هذا الخلل البنيوي لا يمكن إصلاحه بالإسعافات الأولية، بل من خلال عملية استئصال وتركيب من الجذور. وهذه الفكرة تجرنا إلى الأصل، إذ إن الجذور تعود إلى البداية التي تكللت بفكرة إلغاء المواطنة واعتماد مبدأ المكونات الذي جاء به بول برايمير في فهمه الخاطئ للمجتمع العراقي، وهذا ما أدى إلى زرع بذرة ضارة وسط الزرع الخصب، وهذه البذرة الضارة كبرت وانتشرت وتوسعت مما لا يمكن لأحد السيطرة عليها أو اجتثاثها من الأرض.
لم تكن الطائفية موجودة في المجتمع العراقي فيما سبق الاحتلال، لكنها أصبحت سلاحا للحكم وأداة عقاب لكل مَنْ يعارضها، لذلك تعصف الأزمات بهذا البلد من دون أن يتمكن أبناؤه من رؤية بريق الضوء في نهاية النفق بعد نحو عقدين من الحكم من دون تحقيق أي مكاسب للشعب العراقي، لذا فإن منظومة الحكم الجديدة القديمة التي تأسست وتجذرت، هي السبب الرئيسي في توليد هذه الأزمات في المجتمع العراقي الواحدة تلو الأخرى دون أن تجد طريقا للحل، خاصة في ظل فقدان الهوية العراقية وسيادة الوطن واستقلالية القرار والرؤية العلمانية التي كانت من المسلمات في الماضي لمجتمع يتميز بتركيبته الفسيفسائية المعروفة.
لا يزال الصراع السياسي بين الأحزاب الدينية قائما، بل إن انشطار هذه الأحزاب وتكتلاتها حسب المذهبية والرؤية الطائفية أكبر دليل على عدم قدرتها على تلبية احتياجات المواطنين الذين يدفعون ثمن هذه الصراعات غاليًا، ما أدى إلى التلاعب بقوت المواطنين، ورواتب الموظفين، وهذا ينطبق على إقليم كردستان الذي أصبحت مستحقاته من الميزانية العامة مرتبطة أيضًا بهذه الصراعات.
وليس هذا الأمر بجديد على العراق، لكنه الأسوأ في تاريخه، لأنه ابتُلي بالويلات والحروب والانقلابات والمعتقلات والمؤامرات منذ تأسيس الدولة العراقية قبل مئة عام وحتى الوقت الحاضر، حتى صارت أزماته أزلية لا تغادره، ما أدى إلى إنتاج مجتمع منقسم وممزّق وفقير، تتنازعه الطائفية والرؤية السوداوية والفساد والمليشيات والمجهول والنهب والسلب؛ لذا فإن الحديث عن أي إصلاح لا يمكن أن يتم إلا بتغيير المنهج الذي تسير عليه الطبقة الحاكمة، وهنا يكمن الخلل البنيوي في الحكم.
ففي الوقت الذي تقدمت فيه بعض المجتمعات العربية مما عرفته من ازدهار وتقدم وثراء، يشهد العراق -من مروره بالعهد الملكي إلى الجمهوري ومن الديكتاتورية إلى الديمقراطية المزيفة- تراجعًا في البناء والنهضة وكذلك في المفاهيم العصرية، ويظهر هذا الخلل في بنية الحكم من خلال مجاهرة الطبقة السياسية ورموزها بولائها إلى دولة أخرى من دون خجل أو حياء أو تأنيب ضمير. فقد أصبح العراق ساحة لتصفية صراعات لإيران، وكأنه أصبح بلدا مُختطفا بكل ما يمتلك من سيادة وثروات وبُعدٍ عربي، حيث إن نظامه الولائي يعتمد على نصرة المذهب الذي يمثله الولي الفقيه.
من ناحية أخرى، يُطلق رئيس الوزراء تغريدة يقول فيها عشية استقبال العام الجديد إن التجاوزات على الدولة العراقية مرفوضة بكل أشكالها، وهو يسعى إلى أن يصب في رؤية الرئيس، من دون أن يكون له سند أو قوة لأنه غير قادر على مقارعة مَنْ يقف وراء تحريك المشهد السياسي من أحزاب ومليشيات وقوى أخرى هي الحاكمة الفعلية، ثم إن هذه القوى، وبما تمتلكه من آليات وأذرع وقوة المال هي التي جاءت به لسد الفراغ واستخدامه كورقة لتخفيف الضغط الشعبي، من مظاهرات واحتجاجات تتزايد ضدها كل يوم، ولم تجد طريقا للاستجابة لمتطلباتها لأنها تدور في فلك آلية تخصها ومرسومة لها مسبقا، وبدلاً من ذلك فهي المستفيدة الوحيدة من أزمات المجتمع العراقي.
أين هي مقومات نهضة العراق وما الأسس التي تقوم عليها؟ لا توجد، والحالة هذه، أية رؤية واضحة لذلك في دولة لا برامج تنمية لها أساسا لا في الزراعة ولا في الصناعة، إلا في اعتمادها على اقتصاد ريعي متقلب مع أسعار البترول، إضافة إلى ذلك غير قادرة على تحديد العلاقات مع دولة جارة تقوم على مبادئ الاستقلال ورؤية المصالح الوطنية لا التبعية المذهبية والتجارية، فالعراق دولة مُختطفة لحساب قوى لا تهتم بمصالحه وسيادته، ولهذه الأسباب يدق الرئيس العراقي ناقوس الخطر، ولكن هل يسمعه لمن في أذنه صَممٌ؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة