في مكتبة السينما العالمية أعمال كثيرة ناقشت فكرة التسامح كقيمة وسعت إلى تعزيزها من خلال حكايات عميقة في أحداثها وحواراتها
بين التسامح والعفو علاقة وثيقة، فكلاهما يؤدي إلى الآخر، وكلاهما يعكس طبيعة ما يجري في دهاليز النفس البشرية، ذلك ما يؤكده علماء النفس، الذين اعتمدوا التسامح أسلوبا علاجيا، لما لهذه القيمة من تأثير فعال في النفس البشرية، وهو ما يمكن أن تتلمسه أيضاً على الشاشة الكبيرة.
وجنح صناع الفن السابع نحو هذه القيمة، وحاولوا تجسيدها بكل براعة في العديد من الأعمال السينمائية، التي أعلت من قيمة التسامح، ورفضت كافة أشكال التمييز النفسي والجنسي والديني، وبلا شك أن معظم الأعمال التي اعتمدت قيمة التسامح، عموداً فقرياً للنص، تمكنت من ترك بصمتها ليس في صالات السينما وحسب، وإنما في ذاكرة الجمهور أيضاً، لا سيما وأن معظم هذه الأعمال خرجت من عباءة أفلام الحرب، والأبطال الخوارق التي تعودت أن تستحوذ على النصيب الأكبر من المشاهدة في الصالات.
في مكتبة السينما العالمية أعمال كثيرة، ناقشت فكرة التسامح كقيمة، وسعت إلى تعزيزها في نفس الجمهور، من خلال حكايات عميقة في أحداثها وحواراتها، بعض تلك الأعمال جاءت مستوحاة من الديانتين الإسلامية والمسيحية، وأخرى من سير بعض العظماء، ممن لا تزال ذكراهم حاضرة بيننا رغم الفاصل الزمني الذي يبعدنا عن رحيلهم، مثل غاندي وعمر المختار، وهناك أيضاً الرسالة واسمي خان، وغيرها من الأعمال التي كرست قيمة التسامح وقدمتها بصورة مبهرة على الشاشة الكبيرة.
الحرب والحب
المخرج الإنجليزي الراحل ريتشاردأتينبورو، كان أحد أبرز صناع السينما العالمية الذين تركوا إرثاً سينمائياً جميلاً امتد على مدار 6 عقود، دار معظم هذا الإرث حول فكرة الحرب والسلام، وجسد قيمة التسامح بكل واقعية، خاصة في فيلمه "غاندي" (1982) الذي روى فيه مسيرة المهاتما غاندي، ومسيرة كفاحه من أجل نيل الهند استقلالها، حيث ركز المخرج على رسالة غاندي بأن "التسامح هو أقصر الطرق إلى السلام، واللاعنف أصدق من أي سلاح"، ليؤكد ريتشارد أتينبورو على ذلك من خلال مشاهد غنية، لعل أكثرها ثراءً تمثل في قول غاندي خلال حديثه عن طفولته مع الصحفي الأمريكي والكر، بأنه "نشأ هندوسياً، لكن الكاهن في هيكله كان يقرأ أيضاً من القرآن"، وتالياً سيقول غاندي لأتباعه: "أنا مسلم وهندوسي ومسيحي ويهودي، وكذلك أنتم جميعاً".
رسالة التسامح بين الأديان تلك، قدمها ريتشارد أتينبورو بكل صراحة في عمله الذي لا يزال يحظى بمكانة جيدة في المكتبة السينمائية العالمية، خاصة وأنه يستعرض لنا غاندي عندما بدأ صوماً طويلاً من أجل تحقيق السلام وإنهاء العنف في بلاده.. أعمال ريتشارد أتينبورو اتسع مداها وشملت أيضاً فيلم "الحرب والحب" الذي استوحاه من رواية الأديب الأمريكي إرنست هِمنغواي، حيث يستعرض فيها بعضاً من سيرته وما شهده خلال الحرب، وعلاقة الحب التي جمعته مع ممرضة تكبره بتسع سنوات، ورغم أن الفيلم يدور في الحرب، ولكنه جاء محملاً برسائل السلام والمحبة والتسامح.
الرسالة
بالحديث عن التسامح، لا بد أن نطرق أبواب المخرج مصطفى العقاد، الذي قدم للسينما العالمية في 1976 فيلمه "الرسالة"، الذي تناول فيه السيرة النبوية لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. أهمية هذا الفيلم، تكمن في إثباته أن السينما أداة تأثير عالية المستوى، قادرة على تغذية العقول والروح بالجمال، ولعل ذلك هو ما دعا العقاد إلى توضيح حقيقة الإسلام وسمو الرسالة التي جاء بها سيدنا محمد عليه السلام إلى العالم، بروح التسامح ولغة المحبة، وقد نجح العقاد عبر فيلمه في مخاطبة وجدان الجمهور الغربي، وأن يقدم صورة جميلة عن الإسلام المتسامح والمتنور.
ولعل المتابع لفيلم "الرسالة" الذي أصبح بعد ذلك من أيقونات السينما العالمية، يجد أن العقاد قدم عبر سيرة سيدنا محمد لقيم التسامح والعدل والحق والإيمان، وهو ما حرص العقاد على إظهاره في كل مشهد من الفيلم الذي عاد ابنه مالك العقاد إلى ترميمه بطرق تكنولوجية متقدمة، وإعادة تقديمه إلى الجمهور خلال العام الماضي، نظراً لما يحمله هذا الفيلم من قيم التسامح بين الأديان والأعراق، ومساهمته في نشر المحبة والإحسان بين الناس. الراحل العقاد، قدم أيضاً في هذا السياق، فيلم "أسد الصحراء"، حيث وثق بين مشاهده سيرة القائد الليبي عمر المختار، ومواجهته للاحتلال الإيطالي، حيث نجح من خلاله في تقديم صورة جميلة عن العرب والمسلمين أجمع، وما يحملونه من محبة للعالمين.
الرئيس
في 2010 أطل الممثل الهندي شاروخان بفيلمه "اسمي خان"، ليحمل من خلاله رسالة واضحة إلى الجمهور الغربي، قاعدتها الأساسية التسامح، في محاولة من شاروخان لتقديم رد حضاري، على حملة العداء التي واجهها المسلمون في أمريكا، بعد أحداث 11 سبتمبر، التي شهدت انهيار برجي التجارة العالمي، في الواقع فإن شاروخان صنع فيلمه هذا ليعرض في هوليوود، وتمكن من خلال حكايته الطويلة التي تدور حول "خان" الشاب المصاب بالتوحد، أن يقدم رسالة التسامح، وأن يدعو إلى نبذ العنف والتعصب الطائفي والعرقي، وهو ما يبرز في الكثير من مشاهد الفيلم، بدءاً من هبوطه في مطار سان فرانسيسكو، ورحلة العذاب التي يتحملها للاشتباه فيه، ووصولاً إلى مقابلته رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل أن يخبره أنه مسلم وليس إرهابياً.
جمالية هذا الفيلم تكمن في اعتماده أسلوب سرد درامي دائري خلال تقديمه للحكاية، وقد حاول شاروخان في الفيلم أن يحمل بكل اقتدار رسالة التسامح، وأن يعبر عنها في الكثير من المشاهد، خاصة تلك التي تعلقت في مشاركته بمساعده أهالي إحدى الولايات الأمريكية التي وقعت تحت تأثير كارثة طبيعية، حيث سعى فيها أن يثبت أن كل البشر سواسية، لا فرق بينهم.
"اسمي خان" لم يكن الفيلم الوحيد الذي سعى فيه شاروخان لتقديم رسالة التسامح، وهو ما نراه يتجلى في بعض مشاهد فيلمه "الرئيس"، خاصة في المشاهد التي يقوم فيها بمساعدة أبناء جلدته وجيرانه ممن يتبعون الديانة الهندوسية، حيث يقول بكل صراحة في رده على قرب نفاد كميات الطعام، وأنه ينبغي أن يحتفظ به للمسلمين، يجيب بأن "هؤلاء جيراني ولا يمكن أن أتخلى عنهم عند الشدائد".
القائد صلاح الدين
خلال مسيرته قدم المخرج ريدلي سكوت مجموعة كبيرة من الأعمال التي عززت اسمه في قائمة عظماء الفن السابع، ولعل "مملكة السماء" الذي قدمه في 2005، كان واحداً من أبرز الأعمال التي قدمها، ورسخ من خلالعا رسالة التسامح والمحبة بين الأديان، بأبهى صورة، عبر العديد من المشاهد التي حملت بين طياتها مدلولات عميقة تحمل كافة معاني التسامح.
ولعل من أبرزها ذلك المشهد الذي يدخل فيه القائد صلاح الدين إحدى الكنائس فيجد صليباً ملقى على الأرض فينحني ليرفعه ويضعه في مكانه، وفي مشهد لقائه الأخير مع القائد باليان للاتفاق على دخول القدس، يخبره هذا الأخير رداً على تعهد صلاح الدين بضمانة سلامة كل روح للخروج لأي بلد مسيحي، بأن "المسيحيين قتلوا كل المسلمين عندما أخذوا منهم القدس"، فيجيبه صلاح الدين: "أنا لست مثلهم.. أنا صلاح الدين" والإشارة إلى الاسم هنا ليس للشخص وإنما لما يمثله في هذا المقام، أي الإسلام وقيمه.
aXA6IDMuMTQyLjEzMS41MSA=
جزيرة ام اند امز