كان لإعلان التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والصين فيما يتعلق بنزاعهما التجاري وقرب توقيع الاتفاق آثار إيجابية ملحوظة
كان لإعلان التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والصين فيما يتعلق بنزاعهما التجاري وقرب توقيع الاتفاق الذي أُطلق عليه "اتفاق المرحلة 1" آثار إيجابية ملحوظة في كل أنحاء العالم. وربما كان الأثر الإيجابي الأسرع هو ذلك الذي شهدته أسواق المال حول العالم، خصوصا في الاقتصادات الكبرى. فقد ارتفعت معنويات المستثمرين في الولايات المتحدة أكبر اقتصاد عالمي، ما دفع إلى تسجيل الأسهم الأمريكية مستويات قياسية. ومع نهاية العام، كان مؤشر البورصة الأمريكية ستاندرد آند بورز 500 قد سجل أفضل أداء سنوي له منذ عام 2013. وفي أوروبا الموحدة، سجلت المؤشرات أيضا أرقاما قياسية، وارتفع المؤشر ستوكس 600 خلال عام 2019 بنحو 23%، ومما دعم من الأثر الإيجابي للاتفاق التجاري في أوروبا أمرين؛ الأول هو اعتماد الاقتصادات الأوروبية الكبيرة خصوصا ألمانيا أكبر اقتصاد أوروبي وأكبر اقتصاد ضمن الاقتصادات الكبرى اعتمادا على التصدير على كونها حلقة مهمة في سلاسل الإمداد التي تغطي التجارة الصينية - الأمريكية. إذ تصدر ألمانيا كثيرا من السلع خصوصا المعدات والآلات للصين التي تستخدمها بدورها في إنتاج سلع يتم تصديرها لأسواق العالم وعلى رأسها السوق الأمريكي. ومن هنا فأي انفراجة في العلاقات التجارية الأمريكية - الصينية تنعكس حتما في شكل زيادة صادرات ألمانيا وغيرها من الدول التي تلعب دورا مهما في سلاسل التوريد العالمية. الأمر الثاني الذي أدى لتوافر مناخ أكثر إيجابية في القارة العجوز هو فوز حزب المحافظين بأغلبية مريحة في الانتخابات التي شهدتها بريطانيا في منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي كي تكون هناك لأول مرة منذ ثلاثة أعوام خريطة طريق شبه واضحة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعمل على تجاوز حالة عدم اليقين التي سادت أوروبا طوال السنوات القليلة الماضية.
يجب أن نذكر أيضا أن الاتفاق التجاري وما ترتب عليه من تحسن في معنويات المستثمرين حدا بهؤلاء المستثمرين للاتجاه صوب الاستثمار في الأصول مرتفعة المخاطر وتم الابتعاد نسبيا عن الاستثمار في عملات الملاذ الآمن وعلى رأسها الدولار، وهو ما ترتب عليه انخفاض ملموس في سعر صرف الدولار مقابل كثير من العملات
وقد انعكست أنباء الاتفاق إيجابيا أيضا على الوضع الاقتصادي في الصين (ثاني أكبر اقتصاد عالمي)، حيث نمت أنشطة المصانع في شهر ديسمبر/كانون الأول للشهر الثاني على التوالي، بعد أن مرت بعدة شهور من الانكماش، وذكر المكتب الوطني للإحصاءات الصيني أن مؤشر مديري المشتريات استقر عند 50.2 نقطة في شهر ديسمبر/كانون الأول مقارنة بشهر نوفمبر/تشرين الثاني ليظل فوق مستوى الحد الفاصل بين النمو والانكماش المحدد بـ50 نقطة. يضاف إلى هذا إقدام بنك الشعب الصيني (البنك المركزي الصيني) على خفض مقدار الاحتياطيات الإلزامية التي تحتفظ بها البنوك لدى البنك المركزي، وهو ما سوف يتيح سيولة تقدر بنحو 115 مليار دولار لدعم الاقتصاد بعد حالة التباطؤ التي مني بها بشكل واضح منذ الربع الثالث من عام 2019. ويعد هذا الخفض لنسبة الاحتياطيات الإلزامية هو الخفض الثامن منذ بداية عام 2018، وذلك للعمل على تحفيز الإقراض المصرفي لمساعدة الاقتصاد على التعافي. وتفيد توقعات بعض البنوك الاستثمارية الآن إلى أن الاقتصاد الصيني ربما يسجل معدلا للنمو يبلغ على الأقل 6% خلال عام 2020، وذلك بعد أن كانت بعض التوقعات الصادرة في نوفمبر/تشرين الثاني عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تشير إلى أن الاقتصاد الصيني سوف يسجل معدلا للنمو لا يزيد على 5.8% خلال هذا العام.
الأثر الثاني المهم للاتفاق التجاري المرحلة 1 كان يتعلق بأسواق السلع خصوصا الخامات المعدنية، إذ ارتفعت أسعار الحديد والنحاس وغيرهما من المعادن، كما يأتي النفط الخام على رأس السلع التي شهدت أسعارها ارتفاعا ملموسا. ولا يعني هذا بطبيعة الحال ارتفاعا مستمرا في الأسعار، ولكن ما نعنيه هو أن الاتجاه العام لأسعار كثير من المعادن والسلع الزراعية قد اتجه صوب الارتفاع، مقارنة بالوضع قبل الإعلان عن التوصل إلى اتفاق المرحلة 1, وهناك أمور أخرى ساعدت دون شك على الارتفاع الواضح في أسعار النفط يأتي على رأسها الاتفاق بين أطراف أوبك+ على تعميق خفض الإنتاج بدءا من يناير/كانون الأول 2020 بمقدار 500 ألف برميل يوميا علاوة على 1.2 مليون برميل يوميا معمول بها منذ بداية عام 2019، يضاف إلى ذلك تعهد من قبل المملكة السعودية بخفض إضافي اختياري في حصتها بمقدار 400 ألف برميل يوميا، ليصل بذلك جملة الخفض المتوقع إلى 2.1 مليون برميل يوميا. ويلاحظ أن هذا الخفض يناظر تقريبا ما تتوقعه وكالة الطاقة الدولية من زيادة في عرض النفط الخام خلال العام الحالي، ومن هنا يتوقع ارتفاع متوسط أسعار النفط خلال العام الحالي، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار أيضا ما يمكن أن ينجم من زيادة في الطلب بسبب تحسن الأجواء وسيادة التفاؤل بأن الاتفاق الأمريكي - الصيني سيعمل على الانتعاش الاقتصادي في مختلف أرجاء العالم. أضف إلى ذلك أيضا ميل المخزون التجاري من النفط الخام لدى الولايات المتحدة (أكبر مستهلك للنفط الخام في العالم) إلى الانخفاض على مدى ثلاثة أسابيع متتالية، وبمعدلات تتجاوز التوقعات المتصورة لمثل هذا الانخفاض. وقد بلغ مستوى هذا المخزون 441.4 مليون برميل يوم الجمعة 20 ديسمبر/كانون الأول، وهو ما لا يزيد سوى بنحو 2% فقط عن متوسط المخزون التجاري من النفط خلال الأعوام الخمسة الأخيرة.
وأخيرا يجب أن نذكر أيضا أن الاتفاق التجاري وما ترتب عليه من تحسن في معنويات المستثمرين حدا بهؤلاء المستثمرين للاتجاه صوب الاستثمار في الأصول مرتفعة المخاطر، وتم الابتعاد نسبيا عن الاستثمار في عملات الملاذ الآمن وعلى رأسها الدولار، وهو ما ترتب عليه انخفاض ملموس في سعر صرف الدولار مقابل كثير من العملات الدولية الأخرى خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. ومن الطبيعي أن يترتب على هذا الانخفاض زيادة في الطلب في الأسواق الدولية على كثير من السلع - وعلى رأسها النفط - التي يتم تسعيرها بالدولار. فانخفاض سعر صرف الدولار يؤدي إلى أن تصبح هذه السلع أرخص مقومة بالعملات الأخرى التي ارتفعت مقابل الدولار، ومن هنا تأتي زيادة الطلب عليها بما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها في نهاية المطاف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة