يواجه العالم الآن ضمورا شديدا في الالتزام بقواعد نظام بريتون وودز. فمنظمة التجارة العالمية فشلت في إطلاق جولة شاملة لتحرير التجارة
يبدو أن النظام الاقتصادي الدولي بقواعده ومؤسساته بات يتعرض للضمور الملحوظ مع مضي الأيام، بتأثير العديد من التطورات على الجبهات التجارية والمالية. وهذا النظام المستمر بشكل أو آخر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يواجه فعلا بمخاطر كبيرة دون توفر أي أسس لنظام بديل، وفي ظل أوضاع اقتصادية قلقة تعتري العديد من دول العالم حاليا.
النظام الدولي ومؤسسات بريتون وودز:
يواجه العالم الآن ضمورا شديدا في الالتزام بقواعد نظام بريتون وودز. فمنظمة التجارة العالمية فشلت منذ إنشائها في إطلاق وتنفيذ جولة شاملة لتحرير التجارة بين دولها الأعضاء، كما كان يحدث في ظل الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة.
قبل أن تنتهي الحرب العالمية من الناحية الفعلية، ولكن مع تأكد هزيمة دول المحور، فكرت البلدان الكبرى في كيفية إعادة بناء ما دمرته الحرب، بل وكيفية الحيلولة دون نشوب الحرب من جديد.
حيث كانت البلدان الكبرى قد شهدت حربا تجارية ضروسا فيما بينها خلال عقد الثلاثينيات فيما عرف باسم "حرب إفقار الجار" وهو ما أدى إلى تعميق ما عرف بالكساد العظيم (1929-1933) إلى الحد الذي دفع البعض إلى القول إن هذه الحرب غير المسلحة كانت من بين الأسباب التي دفعت إلى الحرب العالمية، وكانت حرب "إفقار الجار" تستند إلى تنافس الدول في تخفيض أسعار صرف عملاتها لتقوية القدرة التنافسية لسلعها في الأسواق العالمية وخفض القدرة التنافسية للبلدان المنافسة، علاوة على فرض قيود جمركية وغير جمركية على الواردات، ولذا تم التفكير في إنشاء منظمات دولية تشرف على وضع وتشغيل نظام نقدي دولي مستقر، وحفز وتنمية التجارة الدولية بحظر الممارسات التجارية الضارة التي أدت إلى الخراب الاقتصادي قبل الحرب العالمية الثانية.
ولذا فخلال الأسابيع الثلاثة الأولى من يناير 1944 اجتمع ممثلو 45 دولة فيما سمي بمؤتمر الأمم المتحدة النقدي والمالي في منتجع بريتون وودز بولاية نيوهامبشير الأمريكية لمناقشة موضوع إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب بالإضافة إلى موضوعات مثل معالجة عدم الاستقرار في أسعار الصرف والسياسة التجارية الحمائية.
ووصل المجتمعون في بريتون وودز إلى اتفاقية لتأسيس نظام نقدي دولي لفترة ما بعد الحرب يستند إلى قابلية العملات للتحويل فيما بينها، مع تحقيق ثبات نسبي في أسعار الصرف وتشجيع التجارة الحرة، وللعمل على تحقيق هذه الأهداف استهدف المجتمعون في بريتون وودز إنشاء ثلاثة مؤسسات هي:
مؤسسة وظيفتها العمل على تحرير التجارة وتشجيع هذا التحرير بناء على قواعد ملزمة لجميع أعضائها. وذلك بالتخلص من العوائق أمام التجارة سواء تمثلت في الرسوم الجمركية الحمائية أو غيرها من العوائق. ومع الفشل في تأسيس مثل هذه المؤسسة تم التوصل إلى ما يعرف بالاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات)، التي ظلت تعمل حتى تم أخيرا النجاح بعد ما يقرب من ثلاثة عقود في تحويلها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 1994.
المؤسسة الثانية هي مؤسسة البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي يختص بعملية إعادة الإعمار، خاصة في أوروبا، وقد بدأ عمله الفعلي في 25 يونيو 1946، وكان أول قرض يقدمه هو القرض الذي قدمه لفرنسا بتاريخ 9 مايو 1947 بقيمة 250 مليون دولار.
ثم توسع البنك لاحقا في عملياته لتشمل أغلب العالم النامي، كما تنوعت برامجه بعيدا عن الإقراض لمشاريع البنية الأساسية وغيرها من المشروعات إلى معالجة قضايا أخرى كقضايا الفقر والأمية والرعاية الصحية والتنمية البشرية عموما في الدول النامية.
أما المؤسسة الثالثة فهي صندوق النقد الدولي التي عهد إليها بإدارة نظام نقدي دولي يعمل على تحقيق التعاون النقدي بين الدول وتحقيق الاستقرار في أسعار الصرف.
وقد تم إقامة ذلك النظام النقدي عبر موافقة الدول الأعضاء في الصندوق على نظام من أسعار الصرف شبه الثابتة حيث سمح بتوفير قليل من المرونة بالسماح بتحرك أسعار صرف عملات الدول المختلفة في علاقتها بالدولار الأميركي بهامش لا يتجاوز معدله 1% صعودا وهبوطا (عدل الهامش لاحقا إلى 2.25%)، مع عدم السماح بتحرك سعر صرف عملة أي دولة من الدول خارج هذا الهامش إلا بعد الوصول إلى اتفاق مع الصندوق، وذلك لغرض أساسي هو معالجة ما سمي ب "الاختلالات الجوهرية" في ميزان المدفوعات التي يعاني منها اقتصاد تلك الدولة الراغبة في خفض سعر صرف عملتها.
وقد ظل هذا النظام معمولا به منذ العام 1946 حتى بداية السبعينيات، حين أخذ الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون قرارا بوقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، لأن الضمانة الحقيقية لهذا النظام كانت قوة الاقتصاد الأميركي الذي خرج من الحرب العالمية الثانية سليما معافى، ما مكنه من لعب دور قاطرة للاقتصاد العالمي، كما وفر الاحتياطي الضخم من الذهب لدى الولايات المتحدة الضمانة الحقيقية لاستمرار العمل بنظام سعر الصرف الثابت الذي يتيح إمكانية تحويل بعض العملات أمام بعضها الآخر وفق علاقة كل منها بالدولار الأميركي الذي يمكن تحويله إلى ذهب في أي وقت، ومن ثم جاء قرار نيكسون ليجهز تماما على نظام سعر الصرف الثابت والتحول إلى نظام سعر الصرف المعوم، وهو ما أجهز بدوره من الوجهة العملية على الهدف الأهم الذي كان وراء تأسيس صندوق النقد الدولي.
ولم يعد هناك من وسيلة أمام الصندوق لتحقيق أهدافه سوى ما يعرف بـ "المشروطية" التي يفرضها على أعضائه، وبالطبع لا تنطبق هذه المشروطية إلا على الأعضاء الذين يحتاجون إلى الدعم المالي من الصندوق لأجل تجاوز مشكلات حادة في ميزان المدفوعات.
ويواجه العالم الآن ضمورا شديدا في الالتزام بقواعد نظام بريتون وودز. فمنظمة التجارة العالمية فشلت منذ إنشائها في إطلاق وتنفيذ جولة شاملة لتحرير التجارة بين دولها الأعضاء، كما كان يحدث في ظل الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة. وأصيبت مؤخرا قضية تحرير التجارة القائمة على القواعد بطعنة نجلاء مع اندلاع الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وفرض رسوم جمركية حمائية ورسوم انتقامية مضادة. وهناك تهديدات معلنة بتوسيع نطاق هذه الحرب لتشمل أطرافا أخرى مثل أوروبا الموحدة وبعض بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا.
أما صندوق النقد الدولي فبعد أن تم إجراء تحويل كبير في أهدافه بالتحول لأسعار الصرف المعومة ها هو العالم يدخل مرة أخرى في تهديدات بنشوب حرب عملات. فقد غرد الرئيس الأمريكي على موقع تويتر قائلا "تجري البرازيل والأرجنتين خفضا ضخما في قيمة عملتيهما، وهذا ليس بالأمر الجيد لمزارعينا. وبشكل فعال وفوري، سأعيد الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم القادم إلى الولايات المتحدة من هاتين الدولتين". والأكثر أهمية أن الرئيس الأمريكي واصل ضغوطه على مجلس الاحتياطي الفيدرالي (بنك الولايات المتحدة المركزي) من أجل خفض سعر الفائدة للعمل على إضعاف العملة الأمريكية وذلك حسب قوله " لمنع الدول من تحقيق ميزات تجارية من خلال خفض قيمة عملاتها". وإذا ما وضعنا في الاعتبار أيضا أن الولايات المتحدة تتهم الصين بإضعاف قيمة عملتها حتى تزيد من القدرة التنافسية لسلعها، بل وتوجه نفس الاتهام لبعض البلدان الأوروبية مثل ألمانيا نكون إذا إزاء تهديد كامن بتحول العالم ليشهد حرب عملات جديدة. ويرتبط ذلك كله بضعف مشهود في الأداء الاقتصادي في كافة أرجاء العالم، ونكون إذا إزاء ضمور واضح في النظام الاقتصادي الدولي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، دون توفر بديل واضح. والخوف هو من فوضى وانهيارات اقتصادية حول العالم بتأثير حرب تجارية وحرب عملات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة