في تحول مفاجئ طفت للسطح مرة أخرى تهديدات المسؤولين الأمريكيين باللجوء إلى إجراءات حمائية في مواجهة الشركاء التجاريين الأساسيين.
في تحول مفاجئ طفت للسطح مرة أخرى تهديدات المسؤولين الأمريكيين باللجوء إلى إجراءات حمائية في مواجهة الشركاء التجاريين الأساسيين، خاصة أولئك الذين يحققون فوائض تجارية كبيرة مع بلدهم، وترافق هذا التحول مع قرب انتهاء المهلة التي منحها الرئيس الأمريكي حتى الأول من يونيو/حزيران قبل فرض رسوم جمركية تبلغ 25% على وارادت الصلب و10% على واردات الألمنيوم مع عدد من البلدان، تشمل كندا والمكسيك ودول الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية والبرازيل وغيرها، إذا لم تستجب للمطالب الأمريكية بخفض فوائضها التجارية.
وقد تنوعت المطالب الأمريكية، إذ اشترطت مثلاً على كوريا الجنوبية إعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين البلدين، لكي تحقق ما تراه واشنطن شروطاً عادلة للتجارة، أو بمعنى صريح زيادة صادراتها لكوريا وخفض وارداتها منها، وهو الأمر الذي تكلل بالنجاح فعلاً.
يندهش البعض كون التصعيد الأمريكي الأخير يأتي بعد نحو 10 أيام فقط من التوصل لتفاهم أثناء مباحثات وفدي البلدين في واشنطن، كما جاء قبل يوم واحد من وصول وفد أمريكي لبكين يوم الأربعاء الماضي، استعداداً لاستئناف المفاوضات بقيادة وزير التجارة الأمريكي
كما كانت الخطة مماثلة مع كندا والمكسيك بطرح إعادة التفاوض حول اتفاق منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا) المطبق منذ نحو ربع قرن، الذي يعده ترامب أسوأ اتفاق تجاري على الإطلاق، ورغم بدء إعادة التفاوض حول الاتفاق بالفعل والتوصل لنتائج أولية إيجابية خلال الشهر الماضي فإنه بات من غير المتوقع - كما كانت الرغبة المعلنة - التوصل إلى اتفاق بين الأطراف الثلاثة قبل الانتخابات الرئاسية المكسيكية المقررة في الأول من يوليو/تموز المقبل.
وتحت تهديد فرض الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم قالت وزيرة الخارجية الكندية يوم الأربعاء الماضي إن المفاوضات حول اتفاق النافتا أمر، والتهديد بفرض رسوم جمركية أمر آخر تماماً. وقالت إن بلادها سترد بالطريقة الملائمة على أي رسوم جمركية ستُفرض على صادراتها من الصلب والألمنيوم، حيث تحتل كندا المرتبة الأولى في قائمة البلدان المصدرة للصلب للسوق الأمريكية.
وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال، يوم الأربعاء الماضي، أيضا أن أمريكا ستفرض الرسوم على صادرات الصلب والألمنيوم الأوروبية، وهو ما كان الاتحاد الأوروبي قد هدد بأنه سيواجه إن حدث بردود فعل انتقامية تطال سلعا أمريكيا تستوردها دول الاتحاد.
الصين العقدة الأكبر:
بعد مباحثات صينية-أمريكية على مدى الشهرين الماضيين بهدف توفير سبل لحل المشكلات التجارية بين البلدين وتحقيق المطلب الأمريكي بخفض الفائض التجاري الصيني الضخم البالغ 375 مليار دولار في العام الماضي، وهي مباحثات ما زالت مستمرة، وأسفرت عن تطور إيجابي كبير أدى إلى تصريح وزير الخزانة الأمريكي لوسائل الإعلام مؤخرا بأن التهديد بحرب تجارية مع الصين قد توقف.
وكانت الصين قد عرضت حلا لمشكلة فائضها التجاري؛ أن تقوم بزيادة وارداتها من الولايات المتحدة، خاصة من مواد الطاقة والسلع الزراعية، وصحيح أنه في مقابل مطالب أمريكية بخفض الفائض التجاري بمقدار 200 مليار دولار لم يتم التوصل إلى رقم محدد، إلا أن المفاوضات كانت بشكل عام مرحب بها من قبل مسؤولي البلدين حتى يوم الثلاثاء الماضي، حينما عادت نغمة التهديدات لتطل برأسها من جديد، إذ عاد بعض المسؤولين الأمريكيين للقول إن الولايات المتحدة ستفرض رسوماً جمركية على واردات من الصين تبلغ قيمتها 50 مليار دولار، ردا على انتهاك الصين حقوق الملكية الفكرية الأمريكية.
بالمقابل يرى بعض الاقتصاديين الصينيين أنه ينبغي النظر لعرض زيادة الوارادت من أمريكا ليس بعده تنازلا أمام مطالب ترامب، بل لأن بلادهم تسير على هدى أفكار أخرى تحقق مصالحها وتحسن من مستويات معيشة مواطنيها.
وفي نظر هؤلاء يعكس موقف بكين رداً ذكياً على مطالب واشنطن، فعوضاً عن اللجوء لإجراءات أخرى لخفض الفائض التجاري قد تشكل ضرراً اقتصادياً كبيراً، يعد خيار زيادة الوارادات خياراً مثالياً، إذ إن إجراءات مثل التقييد الطوعي للصادرات الصينية للولايات المتحدة كانت ستلحق أضراراً بليغة بمستقبل البلاد الاقتصادي.
ويشيرون في هذا المقام إلى الموقف الياباني الذي كان مماثلا تماما للموقف الصيني في منتصف ثمانينيات القرن الماضي من حيث تحقيق فائض تجاري كبير مع أمريكا، إلا أن اختيار طوكيو آنذاك للتقييد الطوعي للصادرات ألحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الياباني، حيث كان ذلك الإجراء من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى وقوع الاقتصاد الياباني في براثن ركود عميق استمر أكثر من عقدين.
ويؤكد هؤلاء الاقتصاديون سلامة هذا الاختيار، لكونه يأتي ضمن أهداف القيادة الصينية الرامية إلى إتاحة مزيد من التنوع في السلع ذات النوعية الأجود أمام طبقة وسطى صينية متنامية. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى تخفيض الصين مؤخراً للرسوم الجمركية المفروضة على طائفة واسعة من السلع الاستهلاكية المستوردة مثل الملابس والأغذية المصنعة والعديد غيرها، لتبلغ نحو نصف ما كانت عليه، وهي ترى في ذلك ليس فقط زيادة في رفاه مواطنيها، بل فرصة أيضا لزيادة جرعة المنافسة أمام المصنعين المحليين.
ويرى البعض أن الأيام التي كان يحتل فيها الفائض التجاري الصيني أولوية في السياسة الاقتصادية قد ولت، وليس أدل على ذلك من انخفاض الفائض في الحساب الجاري (التجارة في السلع والخدمات) من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2007 إلى 1.4% فقط في عام 2017. ويشير هؤلاء إلى الميزان التجاري خلال العام الماضي، ففي حين سجلت الصادرات 2.26 تريليون دولار بزيادة بلغت 7.9% عن عام 2016، قفزت الواردات لتسجل 1.84 تريليون دولار وبنسبة زيادة 15.9%.
ويندهش البعض كون التصعيد الأمريكي الأخير يأتي بعد نحو 10 أيام فقط من التوصل لتفاهم أثناء مباحثات وفدي البلدين في واشنطن، كما جاء قبل يوم واحد من وصول وفد أمريكي لبكين يوم الأربعاء الماضي، استعداداً لاستئناف المفاوضات بقيادة وزير التجارة الأمريكي ويلبر روس بين يومي 2 و4 يونيو/حزيران.
وربما يكون هذا السلوك الأمريكي توزيعاً للأدوار، حيث يتعمد صقور التجارة مثل بيتر نافارو مستشار الرئيس التجاري والممثل التجاري الأمريكي لايت هايزر الضغط من أجل انتزاع مزيد من التنازلات في المفاوضات الراهنة، ولكنه في هذه الحالة يعد أمراً مكشوفاً للغاية، إذ جاء رد الفعل الصيني الرسمي على هذا التصعيد واضحا بالقول إن "الصين غير راغبة في حرب تجارية، ولكنها في الوقت ذاته لا تخشاها"، وإنها ستتخذ إجراءات حازمة وقوية لحماية مصالحها إذا أصرت واشنطن على التصرف بطريقة "متعسفة ومتهورة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة