الحديث عن الأركان الأساسية للجامعات في العالم يستوجب التركيز على أهم هذه الأركان الأربعة، وهو ركن التقاليد الجامعية.
وذلك لأن الأركان الثلاثة الأخرى واضحة وعامة ومن اليسير الإلمام بها، وهي المنهج، والأستاذ، ومصادر التعلم.
فالتقاليد الجامعية هي العنصر الحاسم، الذي يعطي المعنى والتأثير للأركان الثلاثة الأخرى، وهي الركن الذي تفترق حوله الجامعات، وتتدرج على سلم كبير يحتوي آلاف الدرجات، وهذه التقاليد الجامعية يمكن اختصار أهمها في:
أولا: هناك ثلاثة أهرامات للسلطة والقوة والأهمية في الجامعة، فهرم السلطة على رأسه رئيس الجامعة ومجلس أمنائها، وقد يترأس رئيس الجامعة مجلس الأمناء في بعض الجامعات، وهرم القوة يقف على قمته الأستاذ الجامعي، وهرم الأهمية فوق رأسه الطالب.
بذلك تكون المحصلة النهائية أن هرم إدارة الجامعة مقلوب، فقاعدته، الطلاب، يجب أن تكون في القمة، لأن محور الاهتمام وغاية وجود الجامعة هو الطالب، وكل من في الجامعة مسخر لخدمة هذا الطالب وتكوينه وإعداده ليكون إنسانا ناجحا ومواطنا صالحا ومشاركا في عملية التنمية.
ثانيا: المستويات الدنيا في الهيكل الأكاديمي للجامعة هي التي تملك الصلاحيات التعليمية والعلمية للعملية التعليمية، فرئيس القسم هو السلطة العلمية العليا في تخصصه، ولا يحق للعميد أو رئيس الجامعة التدخل في الشأن الأكاديمي للأقسام العلمية، كذلك فإن عميد الكلية هو صاحب السلطة الأكاديمية العليا أمام الإدارة العليا، وأي إخلال بذلك يضع الجامعة في موقع المخالفة وانتهاك الحريات الأكاديمية، وهذا بدوره كفيل بالانحدار بموقع الجامعة إلى مستويات تخرجها من دائرة التعليم العالي المحترم.
ثالثاً: رئيس الجامعة لا يتدخل في الإدارة اليومية للجامعة، وكل دوره ينحصر في الإشراف على وضع الخطط والاستراتيجيات، واعتمادها مع مجلس الأمناء، ثم العمل على حشد مصادر التمويل للجامعة، وتسويقها في المجتمع، وعقد شراكات لها، وفتح مجالات لتوظيف الخريجين، ورفعة اسمها، وضمان تميزها في سلم ترتيب الجامعات في دولتها أو على مستوى العالم.
رابعاً: حيث إن الطالب هو غاية العمل الجامعي، وهو الهدف الأسمى للجامعة، فإن الأستاذ هو المسؤول الأول والأخير عن تكوين الطالب وإعداده، ولا سلطان على الأستاذ إلا ضميره، فهو الذي يضع المنهج الدراسي، وهو من يقوم بتدريسه، وهو من يقوم بتقييم الطلاب وامتحانهم، لذلك تحرص الجامعات على استقطاب أفضل الأساتذة، وتعطيهم كل الإمكانيات للبحث والإبداع، لأن محصلة كل جهدهم سوف تصل إلى الطلاب في صورة أفكار ومهارات تسهم في رسم مستقبل جيل وأجيال متتالية.
خامساً: الجامعات هي مصنع النخب المثقفة، التي تقود الأوطان وترتقي بها وتنجز خططها التنموية ومشروعاتها الكبرى، وتقوم بالأعمال الضرورية لاستمرار تقدم المجتمع والدولة، لذلك تحرص الجامعات على أن تكون محتويات منهجها التعليمي تحقق ثلاثة أهداف كبرى، هي: بناء الإنسان، وتكوين المواطن الصالح المنتمي، وتخريج صاحب المهنة الناجح، لذا تتضمن مناهج الجامعات الكبرى والناجحة موضوعات عامة يتعلمها الطلاب في جميع التخصصات، مثل الموسيقى والفنون والآداب والتاريخ العالمي والوطني والقانون والدستور وطرق التفكير والمنطق، وذلك إلى جانب المواد التعليمية التخصصية في أي مجال علمي أو إنساني أو اجتماعي.
كل ذلك لأن الجامعات مسؤولة عن تكوين إنسان ومواطن وصاحب مهنة، وليست مجرد مركز تأهيل مهني يركز على التخصص الدقيق فيخرج صاحب مهنة لا يُعرف مستواه الإنساني ولا إلى أي كيان ينتمي!
سادساً: الجامعات هي قاطرة التنمية في الدول، وذلك من خلال شراكة عميقة مع قطاعات الأعمال والصناعة والزراعة والتكنولوجيا بكل مجالاتها، وتكون القطاعات الاقتصادية في هذه الشراكة مصدرا للتمويل، وتكون الجامعة منبعاً للأفكار والابتكارات والاختراعات، عبر وجود مراكز أبحاث متخصصة يعمل فيها علماء وباحثون متفرغون تتاح لهم كل الإمكانيات المطلوبة لتحقيق مهامهم.
سابعاً: الجامعات هي المكان الوحيد في الكون، الذي يُعتبر الإسراف فيه قيمة حميدة، والإنفاق الشديد نجاحا وتميزا، والتوفير والتقتير والحفاظ على الميزانية خيبة ما بعدها خيبة، لذلك تحرص الجامعات على تعظيم الموارد المالية من خلال الشراكات والتبرعات والأوقاف والمنح، ولا تحرص أبدا على الاقتصاد في النفقات، فوسائل التعلم تكون متوفرة ومتاحة، ولا يحاسب الباحث على تضييع الملايين في تجربة علمية فاشلة، لأن الفشل هنا سيوضح طريق النجاح، لذلك لا يصلح تطبيق معايير المشروع الخاص أو الإدارات المالية في أجهزة الدولة على الجامعات.
ثامنا: من أهم تقاليد الجامعات العالمية الحرص على تراكم الخبرات والبناء على ما هو موجود، واحترام الممارسات السابقة، وتمجيد السابقين في الجامعة، سواء كانوا إداريين أو أساتذة، ولا توجد جامعة ناجحة يحرص فيها كل رئيس جديد على التخلص مما فعله من سبقه، وهذا الحفاظ على نجاحات السابقين هو الذي خلق ويخلق التقاليد الجامعية، ودون هذه القاعدة الراسخة لا توجد تقاليد جامعية، ويكفي أن نعرف أن كلية لندن الجامعية، UCL، وهي من أعظم جامعات العالم، لا يزال مؤسسها، رائد المدرسة النفعية في الفلسفة "جيرمي بنثام"، يحضر اجتماعات مجلس الأمناء إلى اليوم، رغم أنه توفي منذ 189 سنة، حيث يأتون بجسده المحنط ويضعونه على كرسي، وأمامه اسمه على الطاولة... مثل هذه التقاليد هي التي أوجدت التميز في الجامعات العالمية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة