انشغلت على مدى أكثر من ربع قرن بتصميم مناهج التعليم الجامعي، وبكيفية إدارة العملية التعليمية في الجامعات.
ومارست هذا العمل طوال هذه المدة، وخرجت بخلاصات من القراءات المتعددة المعمقة لعشرات الكتب، التي تتناول إدارة التعليم الجامعي، وفلسفة تصميم وهندسة المناهج، وكيفية وطرق تطبيقها.
وكان من أكثر ما أذهلني في بداية الرحلة أنني وجدت في الولايات المتحدة أكثر من أربعين كتابا عام 1996 فقط، تتكلم عن مجالس أمناء الجامعات، أو مجالس إدارتها.
وكان سبب اندهاشي أننا في العالم العربي نختار لإدارة الجامعات أو عمادة الكليات بالأقدمية كمكافأة، بغض النظر عن الخبرة الإدارية، وعن المعرفة العلمية بفلسفة إدارة التعليم الجامعي.
والحديث عن إدارة الجامعات ذو شجون كثيرة، وسوف نتركه لوقت آخر في المستقبل القريب، ولكن سوف يكون التركيز في هذه السطور على ماهية الجامعة، والأركان الأساسية، التي تتكون منها الجامعة، والتي بها تكون "جامعة"، ومن خلالها تختلف عن المدرسة الثانوية ومعاهد التدريب، والمؤسسات المهنية.
هناك إجماع بين كل من كتب عن التعليم الجامعي أن الجامعة تتكون من أربعة أركان أساسية هي:
المناهج التعليمية، والأساتذة، ومصادر التعليم، والتقاليد الجامعية..
هذه الأركان هي التي تعطي للجامعة صفتها، وهي كذلك العناصر التي تتمايز بها الجامعات، فالمناهج التعليمية هي أساس التعليم الجامعي، وتختلف من حيث الجودة والتميز والقدرة على تكوين خريج قادر على أن ينخرط في سوق العمل بصورة ناجحة، وأن يكون إنسانا مثقفاً واعيا منفتحا نحو التعلم المستمر، وأن يكون مواطنا صالحا في مجتمعه ودولته.
هذه العناصر الثلاثة هي أهم مكونات المنهج التعليمي، وأهم أهدافه إعداد الإنسان والمواطن وصاحب المهنة.
والأستاذ هو العقل، الذي يستطيع أن يقوم بتوصيل المنهج للمتعلم بصورة فعالة وشيقة ومبتكرة، تجعل المتعلم يستوعب المنهج، ويتمثل قيمه ويحقق أهدافه.
أما مصادر التعلم، فهي الوسائل، التي يستعين بها الأستاذ لتحقيق أهداف المنهج، كالمكتبات والمختبرات، وأخيرا التقاليد الجامعية، وهي العنصر الأجدر بالتركيز.
التقاليد الجامعية هي الركن الأهم، الذي يميز الجامعات من بعضها، وهي العنصر الذي يحتاج إلى الزمن لكي يتراكم ويستقر، وهي العنصر الذي لا يمكن شراؤه بالمال، ولا استعارته، ولا الاستعجال في إنضاجه، فالذي جعل جامعة هارفارد في مكانتها العالمية هو تلك التقاليد الراسخة في كل الممارسات التعليمية والإدارية بها، ومن أراد أن يبني جامعة مثل هارفارد واستطاع توفير كل الأموال اللازمة، لن يستطيع، لأنه سوف يحتاج إلى أربعة قرون تقريبا لترسيخ تلك التقاليد الجامعية.
لذلك، فما تحتاجه الجامعات في العالم العربي هو أن تستكمل العناصر الثلاثة الأولى، وهي المنهج والأستاذ ومصادر التعلم، بصورة حديثة ومواكبة للعصر، وفي الوقت نفسه تحتاج إلى بناء وترسيخ تقاليد جامعية متميزة، وهذا يتطلب درجة من الاستقرار والاستدامة في الكوادر التعليمية والإدارية، وفي الممارسات والنظم واللوائح.
وهناك حقيقة يعرفها المجتمع الجامعي في الولايات المتحدة مثلا، لكنها تغيب عن الجامعات العربية، وهي أن التوفير في ميزانية الجامعات والاقتصاد في النفقات هو علامة فشل، ودليل على أن الإدارة الجامعية لا علاقة لها بالتعليم الجامعي، فزيادة النفقات والتوسع في كل ما يتعلق بعناصر العملية التعليمية الأربعة، هو من أسباب التميز والتقدم والنجاح.
أما التوفير في الميزانيات، وتحقيق الفائض، هو دليل على عبقرية الفشل، وللأسف هو ما يعاني منه غالبية التعليم الجامعي في العالم العربي، حيث يكون هدف الإدارات الجامعية تحقيق الوفر في النفقات لرضاء مَن جاء بهم ولضمان تجديد بقائهم، وهو أمر من أهم علامات ضعف التقاليد الجامعية، بإدارة الجامعات كما تدار المؤسسات الاقتصادية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة