هل ما حدث من جريمة مروعة هو حادث خطأ فردي يتحمله فاعله وحده دون سواه أم أنه نتيجة طبيعية لتدهور المرفق الذي يعمل فيه؟
أعرف أن كلامي هذا حول حادث القطار في مصر سوف يفتح عليّ أبواب جهنم، لأنه ليس شعبوياً وضد التيار.
اخترت أن أنتظر قليلاً بعد أن تهدأ المشاعر، واحتراماً وتقديراً لحالة وعواطف أهالي الشهداء والجرحى الذين نالهم الضرر العظيم من هذا الحادث المخيف والمؤسف.
إذا أردنا أن نشخص الداء بشجاعة ونبحث له عن علاج بحكمة وتجرد فإننا يجب أن نبتعد تماماً عن منطق التنفيس السياسي، ودغدغة مشاعر الناس، ونبحث في الأزمات «عمن يشيل الشيلة» ونقدمه قرباناً للجماهير الغاضبة
وأستطيع أن أقول إن هؤلاء ليسوا وحدهم من ضحايا الحادث، لكن هناك -بالتبعية- ضحايا آخرين تأثروا وبشدة من الآثار المدمرة لهذا الحادث الأليم.
من هؤلاء السيد وزير النقل المهندس هشام عرفات، الذي تقدم طواعية ومبادراً بالاستقالة، على الرغم من أنه بدأ عمله في فبراير 2017 في حكومة شريف إسماعيل.
وأنا والله العظيم لا أعرف الرجل، ولم أقابله ولو مرة في حياتي، وليس بيني وبين أصدقائي من الدرجة العاشرة من يعرفه، لكنني أقول بضمير مرتاح إن هذا الرجل الذي يعد واحداً من أفضل الوزراء الذين شغلوا هذا المنصب «الخطر والصعب»، من الرجال ذوي الكفاءة والإخلاص والنزاهة، وكانت لديه رؤية وخطة متكاملة لتطوير هذا المجال.
وسكك حديد مصر ليست حالة جديدة على مرافق النقل في مصر، فالتاريخ يقول لنا إن أول خط حديدي في مصر تم إنشاؤه عام 1851، وبدأ تشغيله عام 1854، وهي الثانية في العالم، حيث تأسست بعد تأسيس السكك الحديدية في بريطانيا، وهي تنقل اليوم 1٫4 مليون راكب يومياً، ويبلغ أسطولها 3500 عربة ركاب، ويبلغ طول شبكتها 9 آلاف كم.
المهم، أن هذا الرجل، أي الوزير المستقيل، تحمّل على الفور خطيئة سائق قطار يمكن أن يوصف بالحماقة والإهمال وعدم تقدير المسؤولية، وأترك تكييف التهمة بدقة وبشكل جنائي لجهات التحقيق والقضاء العادل.
وفي رأيي أن استقالته كان يجب ألا تُقبل، وأن تعلق لحين انتهاء النيابة العامة من التحقيق، وتوفر إجابة صريحة وواضحة عن السؤال الحاسم والعظيم في هذا الأمر، وهو:
هل ما حدث من جريمة مروعة هو حادث خطأ فردي يتحمله فاعله وحده دون سواه، أم أنه نتيجة طبيعية لتدهور المرفق الذي يعمل فيه؟
وإذا كان الخطأ في هذا المرفق فهل تصل المسؤولية إلى الوزير ذاته؟
وإذا وصلت إلى الوزير ذاته، فهل تعود لأخطاء وإهمال يرجع إليه، أم أنه تراكم قديم على مر السنين؟
وهل عدم إصلاح هذا المرفق بشكل فوري يرجع إلى الوزير المسؤول، أم أن هناك كلفة مالية باهظة يجب أن توفرها الدولة ما زالت لم تتوفر حتى الآن؟
إن مرفق السكك الحديدية هو مرفق حيوي للغاية، وباهظ التكاليف والأعباء على الدولة من ناحية الأجور والرواتب وأسعار المحركات والقطارات، وإنشاء آلاف الطرق والإشارات والتأمين والصيانة الدورية.
هذا المرفق يتأرجح في مفهومه حتى الآن بين أنه مرفق خدمة عامة مدعومة، وبين الرغبة التي لا مفر منها في رفع الدعم عنها وإدخال القطاع والاستثمارات الأجنبية فيه، وهنا سوف يأتي الصراع الأزلي بين القرار السياسي الاجتماعي، والقرار الاقتصادي المحض القائم على علاقة الكلفة بالإيراد.
هذا القطاع أطاح ظلماً بالعديد من الوزراء، أهمهم محمد منصور، والمهندس الدميري، وآخرون من الذين تحملوا مسؤولية قطاع قديم مهترئ يعاني من ضعف الإدارة، وقلة الإمكانيات، وتبعات القرار السياسي -تاريخياً- بدعم مرفق مكلف للغاية، وتحمل خسائر تراكمية لا يمكن أن تتحملها أعتى الحكومات وأغناها.
إذا أردنا أن نتكلم «شعبوياً» وندغدغ مشاعر الناس، ونبيع المشاعر في زجاجات، ونقوم بتعليب الأوهام، ونغلف الكوارث بعبارات ثأرية تنفس عن المشاعر المحتقنة، لكنها لا تشفي ولا تسمن من جوع، نقول نعم الحكومة مسؤولة، وعلى الوزير الاستقالة بدون تحقيق، وليذهب كل ساسة البلاد إلى الجحيم، ونتشدق بالدفاع عن حقوق المحرومين والغلابة والفقراء البسطاء، إلى آخر أسطوانة «التسول السياسي على جثث الفقراء».
ولكن.. إذا أردنا أن نشخص الداء بشجاعة ونبحث له عن علاج بحكمة وتجرد فإننا يجب أن نبتعد تماماً عن منطق التنفيس السياسي، ودغدغة مشاعر الناس، ونبحث في الأزمات «عمن يشيل الشيلة» ونقدمه قرباناً للجماهير الغاضبة.
قد يؤدي ذلك السلوك إلى تهدئة الناس بعض الوقت، مؤقتاً، لكنه لن يؤدي إلى التحديد الواضح والعملي والقانوني لمسؤولية الخطأ، ووقائع الفساد والإهمال وتفاصيلها الدقيقة، مما سيجعل المسألة قائمة، والجريمة مستمرة، والملف سيظل -في هذا القطاع- مفتوحاً إلى الأبد، مسطوراً بحروف من ضحايا المسؤولين والجمهور على حد سواء.
نقلاً عن "الوطن المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة