عام 1984 اقتبس المخرج نادر جلال فكرة فيلم كان بطله الممثل المصري عادل إمام وأسماه "واحدة بواحدة".. لكن الفيلم اشتهر باسم "الفنكوش".
هذه الكلمة -الفَنْكُوش- تعني لدى الدارج المصري "اللا شيء".. هو كل شيء ولكنه لا شيء.. يشغل البال والخاطر لكنه لا يعبر عن احتياج أو منتج واضح.
من هذا المُنتَج "اللا شيء" صار هناك فيلم شهير لممثل عربي شهير شاركه البطولة ممثل الأدوار الثانوية جدا -محمود الزهيري- الذي أدى شخصية الدكتور "عبد الجواد أيوب"، العالم الكبير الذي يلجأ إليه رجل دعاية وإعلان -عادل إمام- لصُنع منتج سيسميه "الفنكوش" ليغطي على خطأ في حملته الدعائية المزيفة.
ورغم مرور نحو أربعة عقود على "اختراع الفنكوش" فإننا نعيش ربما كل يوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي "فنكوشا"، تحت أسماء أكثر حداثة، كـ"التريند"، هذا المرض الإلكتروني الذي يصيب الجمهور بحالة هوس لا تعيش أكثر من 24 ساعة، لا تلبث أن تختفي لتأتي حالة هوس جديدة بـ"فنكوش" جديد.
ومؤخرا عاشت الجماهير المصرية مع المطربة آمال ماهر قصة طويلة من الغموض واختراعه، وبالتبعية شاركت في فيلم الغموض ذاك جحافل من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي.
وكانت البداية مع صورة نُشرت على أحد الحسابات الرسمية للفنانة -بعد طول غياب- لتشتعل الفضاءات الإلكترونية نارًا يبدو أنها كانت راكدة تحت الرماد، وسرَت وسومات مثل "آمال ماهر فين"، و"اختفاء آمال ماهر"، لتثبت حقيقة باتت راسخة وهي "قوة السوشيال ميديا" في تحريك الرأي العام، لكنها في النهاية تحركه تحريكات بلا فائدة، لصنع شيء من لا شيء.. تستهلكه الجماهير لترميه بعد دقائق.
ما دار من أسئلة حول اختفاء إنسان هو حق مشروع ومباح تمامًا، بل ومسؤولية مجتمعية، ولكن ما جذب انتباهي بشدة، وربما أختلف معه، هو حملات التضامن والدفاع وسيناريوهات "الاختفاء القسري" و"التعذيب"، وما حاولت جاهدا أن أفتش عنه هو أصل الحكاية، أو لماذا حملات التضامن لافتراضات لم تثبُت أو تُنفى، وفتّشت عن أي استغاثة صادرة من صاحبة الشأن، أو طلب مساعدة، أو تلميح بتعرضها لأذى، أو وقوعها تحت أي من أنواع الابتزاز أو الضغط، لكن أدوات البحث لم تُسعفني بإجابة قاطعة، بل جاءت النتائج نافيةً لكل السيناريوهات على لسان صاحبة الشأن بظهور "متأخر جدا جدا"، لتعلن تعرُّضها لأزمة صحية، نافية كل ما تردد من فرضيات اختفاء وخلافه.
أما وأنه لا دليل يُثبت ما تقدّم وراج جماهيريا وأن كل ما بناه جحافل شبكات التواصل كان مبنيًّا على خلافات شخصية ربما، أو تخص خلافات مهنية حول تعاقدات أو ما شابه.. هنا وجب التفريق بين العام والخاص في حياة نجوم المجتمع ومشاهيره.
وفي تصوري أن الخاص في حياة المطربة آمال ماهر -أو غيرها- وما يتعلق بحياتها الشخصية واستدعاء "السوشيال ميديا" واستغلالها كقوة ضغط لأغراض ما، أمر لا يليق أن ينقاد وراءه المجتمع وأفراده، سواء كان ذلك مخططًا أو جاء مصادفةً، أما فيما يتعلق بمنتجها الفني، وموهبتها، فهذا أمر ملك للجمهور والمجتمع والنقاد ومطروح لنقاش فني، لا أكثر ولا أقل.
وفوق العام والخاص في حياة الفنان، يأتي الحق في الحفاظ على حياة الإنسان، وحال تعرضها -آمال- أو أي إنسان مهما كانت حيثياته، وجب أن ينتفض المجتمع بمقوماته الرسمية والشعبية لدعمه ومساندته، شريطة أن يطلب هو الدعم ويكشف عما به، فلو كانت آمال ماهر تعاني وجب أن تشير إلى مكان الألم كي يمكن لمن يرغب أن يساعدها في العلاج.
القضية بتسلسل أحداثها لا تعدو بالنسبة لي إلا "إعادة إنتاج اللا شيء" وبيعه، فالصمت الذي طال عمدا كان يستهدف مدّ عمر "التريند الفنكوشي" قدر المستطاع، ربما تكون محاولة ترويج تليق بعالم السوشيال ميديا هذه الأيام، على طريقة "اخطف واهرب" قبل أن تلتقطك كاميرات الرقابة المجتمعية، وذلك باللعب على وتر رقيق لدى الجمهور.. وليس بالضرورة أن تكون حملات الدعاية تلك مصدرها المطربة، بل ربما تكون الجماهير مصابة باختراعات "التريند" من كثرة ما لاقوه في عالم السوشيال ميديا الاستهلاكي.
ختاما.. فلتحذر مجتمعاتنا الطيبة كلَّ "فنكوش"، مهما اختبأ وراء أسماء تتبدل في كل عصر!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة