لا يزال العقل الجمعي العربي يعيش تحت ظلال القبيلة لا الدولة، رغم مرور قرون على قيام الكيانات الحديثة.
والقبيلة هنا ليست فقط النسب والدم، بل هي فكرة ذهنية تُقصي الآخر وتُقدّس "العصبة"، وتغلق كل باب للحوار تحت ذريعة الولاء والانتماء.
الاختلاف… خطر وجودي!
في عالم طبيعي، يختلف الناس في الرأي والذوق والانتماء، ويظل الاحترام قائمًا. لكن في المشهد العربي، من يختلف عنك يُعدُّ خصمًا، بل عدوًا.
مغرّد من دولة عربية يشجع فريقًا من دولة أخرى، فإذا بهذا الفعل البسيط يتحول إلى "خيانة قومية"!
فنان يمتدح تجربة في دولة شقيقة، فتنهال عليه الاتهامات بأنه "مطبل"، أو "عميل"، أو "مدفوع له"!
رجل أعمال يستثمر خارج بلده، فيُتَّهم بأنه لا يثق في وطنه، وكأن الاقتصاد قسم ولاء!
الخوف من الفتنة… كمّم الأفواه
الكل يتحدث عن الحرية، لكن الرقابة الذاتية أصبحت أكثر قسوة من أي رقابة حكومية.
"لا تكتب، لا تغرّد، لا تعلق، سيعتبرونك ضدهم".
أصبح الإنسان العربي يخشى الكلمة قبل أن يقولها، لأن هناك من يترصّد لا بالفكرة… بل النية خلفها!
فكر القبيلة… لماذا لا يزول؟
لأن فكر القبيلة لا يحتاج إلى تعليم، بل إلى غريزة:
أنصر ابن عمك ظالمًا أو مظلومًا.
معي أو ضدي، لا وجود لمنطقة وسطى.
الصوت المختلف هو فتنة يجب وأدها.
في مقابل ذلك، الدولة الحديثة تقوم على:
القانون لا العاطفة.
الفرد لا الجماعة.
الفكرة لا القبيلة.
من التاريخ: حين قُدّمت القبيلة على الدولة
في معركة الجمل، رغم أن الأطراف كانت من الصحابة، إلا أن ولاءات ما قبل الدولة كانت أقوى من فكرة الدولة الواحدة، فانتهت الدماء إلى النهر.
في سقوط الأندلس، تحالف بعض أمراء الطوائف مع الإسبان ضد إخوانهم، لأن كل منهم كان يرى دولته الصغيرة أهم من بقاء "الأمة" الأكبر.
وفي العصر الحديث، تمزقت دول بسبب التحزّب الطائفي أو المناطقي أو القبلي أكثر مما تمزقت بسبب الاستعمار.
حين تسيطر المؤامرة… تُقتل الحقيقة
في ظل فكر القبيلة، لا يمكن قبول أن يكون الآخر أفضل منك… لا رياضيًا، ولا اقتصاديًا، ولا حتى أدبيًا!
إذا نجح غيرك فهناك مؤامرة.
إذا تفوّق عليك أحد، فلابد أنه مدعوم خارجيًا.
وإذا قلت الحقيقة، فأنت "خائن".
الخلاصة: لا نهوض دون تجاوز القبيلة
القبيلة كانت نظامًا اجتماعيًا مهمًا قبل الدولة، لكنها لا تصلح أن تكون بديلًا عن دولة المؤسسات.
القبيلة تنتمي إلى الماضي.
الدولة تحمي المستقبل.
كما قال ابن خلدون: "الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل".
ولا عدل مع منطق العصبة، ولا نهوض مع وهم الفتنة والمؤامرة، ولا حرية في ظل حساسيات عربية مختنقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة