فور إعلان اللجنة العليا للانتخابات في تركيا عن فوزه بولاية رئاسية جديدة، علق الرئيس رجب طيب أردوغان على انتصاره الأصعب في مسيرته الانتخابية بقوله إنه "مع انتصار تركيا الكبير دعونا نبدأ القرن التركي".
وذلك في تغريدة عبر حسابه على تويتر، وقبلها ومع ظهور النتائج الأولية قال أمام الحشود التي تجمعت قرب إقامته في إسطنبول إن أبواب "قرن تركيا" فتحت مع هذه الانتخابات، هذه التصريحات التي كان التبشير بمئوية تركية جديدة قاسما مشتركا بينها تثير الكثير من التساؤلات وتطرح بعضا من علامات التعجب، أبرزها: ما هي ملامح هذا القرن الجديد كما يراه أردوغان؟ وهل بالفعل يمتلك أردوغان رؤية استراتيجية تجاه المائة عام المقبلة من عمر دولته؟ وهل ينوي ويقدر على تنفيذ هذه الرؤية؟
أم أنها كانت قبل الانتخابات مجرد دعاية انتخابية وهي الآن نشوة الفوز الذي جاء بشق الأنفس وبعد منافسة انتخابية شرسة هي الأصعب اقتضت جولة ثانية هي الأولى في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة؟ وهل سيحكم أردوغان مائة عام أخرى حتى يرى تركيا الجديدة التي يبشر بها؟!!!
الحديث الأول عن هذه الرؤية جاء في أكتوبر/تشرين الأول الماضي في احتفالية حاشدة في الذكرى الـ99 لتأسيس الجمهورية التركية أعلن خلالها أردوغان عن رؤية حزبه العدالة والتنمية للـ100 عام المقبلة تحت عنوان "قرن تركيا" وأعلن وقتها عن إطلاق موقع إلكتروني يحمل ذات الاسم الذي يشير إلى القرن الثاني من عمر الجمهورية التركية، قائلا: "إن كانت المئوية الأولى هي مئوية الاستقلال، فلتكن المئوية الثانية مئوية المستقبل".
وبعد هذا الخطاب بدأ أردوغان في زيارة الولايات التركية واحدة تلو أخرى ليشرح مشروعه ضمن حملته للانتخابات التي انتهت أمس، الذي يحتوي على ستة عشر بنداً أساسياً بعضها يمكن فهم واستنباط مضمونه من عنوانه وبعضها يحتاج إلى شرح وتوضيح، وهي: الاستدامة، والأمن، والتنمية، والمعايير والتقاليد (وهو بند يشير إلى أن نظام الحكم الرئاسي الحالي، جعل من تركيا دولة ذات معايير وقيم خاصة وناجحة، ويؤكد ضرورة استمرار هذا النظام من أجل نجاح تركيا وتطورها)، والقوة وتحديداً القوة العسكرية والتصنيع العسكري المحلي، والنجاح، والسلام، والعلم، ودعم الشعوب، والإنتاجية، والاستقرار، والمحبة والرحمة والمقصود هنا الرحمة في تعامل الدولة مع المواطنين وبقية شعوب العالم من أجل تحقيق العدالة المجتمعية، والاتصال والمواصلات، والرقمنة، والاستثمار في الإنسان والمواطن، والشباب.
هذه البنود الـ16 المكونة لرؤية القرن التركي الجديد كما يراه أردوغان واجهت وقت طرحها انتقادات عدة بين من اعتبرها أنها لا تحمل بين طياتها مشروعا استراتيجيا متكاملا ذا رؤية واضحة، وإنما هي لا تعدو مجرد مجموعة من المشاريع التي نفذ بالفعل جزءاً كبيراً منها في الماضي، مع توجه قومي أيديولوجي واضح يطغى على أهداف تلك المشاريع، كما انتقدت أحزاب المعارضة هذا المشروع وقالت إنه تجميع وترديد لشعارات جوفاء بلا مردود حقيقي أو عملي، وإن الهدف منه صرف النظر عن المشاكل الحقيقية التي تعاني منها تركيا، وأن الأمر برمته لا يعدو مجرد دعاية انتخابية تداعب مشاعر وعواطف البسطاء قبل عقولهم عبر استدعاء مقولات قيمية وعاطفية مثل فكرة التفوق الأخلاقي.
وتحدث المشروع كثيرا عن القيم والنجاح والسلام والرحمة والمحبة لكل فرد من الشعب التركي، وكذلك فكرة انتصار "صاحب الحق" وليس صاحب القوة في القرن المقبل، وغيرها من الصياغات الفضفاضة المليئة بالرمزيات دون أن يحمل المشروع خطة جديدة بالفعل، واضحة المعالم تتضمن أهدافاً قابلة للتحقق وقابلة للقياس والتقييم.
الأهم والأخطر من ذلك أن المشروع يربط تقدم تركيا ومستقبلها في القرن المقبل بأكمله ببقاء حزب العدالة والتنمية في سدة الحكم طوال هذه الفترة باعتباره الحزب الذي استطاع حسب زعمه نقل تركيا إلى وضع أفضل خلال العشرين عاما الماضية، وهو من حولها لقوة إقليمية وأكسبها مكانة دولية معتبره، وبالتالي هو الحزب الوحيد القادر على قيادة تركيا وتحقيق مشروعها خلال القرن المقبل، وهو أمر محل شك كبير في ضوء نتائج الانتخابات التركية الأخيرة التي رغم فوز حزب العدالة والتنمية بها إلا أنها أثبتت تراجع شعبيته مقارنة بالانتخابات السابقة وهو أمر مرشح للتصاعد.
هذا بالإضافة إلى أن مكاسب كثيرة لهذا الحزب ارتبطت بوجود أردوغان في موقع الزعامة، بل إن الحزب ذاته اكتسب أهميته من قيادة أردوغان له وليس العكس، وهو أمر في طور الانتهاء خلال سنوات قليلة مقبلة بحكم عوامل كثيرة، وبالتالي بناء تصورات ومشروعات يفترض أنها استراتيجية على افتراض أن الحزب سيظل بنفس قوته وشعبيته وجاذبيته الانتخابية بلا أردوغان أعتقد أنه تصور يجافي العقل بقدر ما يجافي المنطق، خاصة مائة عام من الزمان فترة زمنية طويلة جدا لا يستطيع أحد أن يجزم بمآلاتها أو يتوقع تطوراتها داخليا وخارجيا.
إذن أغلب الظن أن ما قيل عن مشروع القرن التركي الجديد لا يخرج عن إطار الدعاية الانتخابية في جولة كانت هي الأهم في تاريخ الجمهورية التركية، لا سيما للحزب الحاكم، لذا كان الحشد لها بقدر أهميتها وإن اقتضى ذلك الوعد بتركيا جديدة أو بقرن تركي جديد.
أما وقد وضعت هذه الانتخابات أوزارها وانتهت بإعطاء الرئيس رجب طيب أردوغان خمس سنوات أخرى وأخيرة لقيادة تركيا، فما عليه إلا أن يسهل مهمة من سيخلفه بأن يكرس ما تبقى من حكمه في محاولة تخفيف آثار الأزمة الاقتصادية الحادة على الشعب التركي والتي كانت في جزء منها بسبب تشديد أردوغان قبضته على البلاد، بما في ذلك الاقتصاد من خلال الحصول على سلطات جديدة غير مسبوقة في ظل نظام رئاسي جديد تم تدشينه في عام 2018، وفي إطلاق سراح كثير من الصحفيين والمعارضين السياسيين المعتقلين، أما خارجياً فعليه أن ينهي حكمه كما بدأه بسياسة صفر مشاكل التي لم تصمد طويلا، وأن تعيد تركيا ضبط بوصلة سياستها الخارجية وفتح صفحة جديدة مع دول الجوار قائمة على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية واحترام مبدأ حسن الجوار، والنأي بالنفس عن النزاعات الداخلية في دول الإقليم وعدم تأجيجها، لو فعل هذا فقط أردوغان لكفاه على أن يترك مهمة القرن الجديد وتركيا الجديدة لجيل جديد سيأتي قريبا بلا محالة محملا بتصوراته الخاصة النابعة من رويته لمستقبله لا من خبرته مع ماضيه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة