وقف إطلاق النار في سوريا.. الأسباب والتداعيات
نجحت دوائر صنع القرار الأمريكي في تغيير موقف ترامب من الأزمة السورية بما يتوافق مع مصالحها في المنطقة
قرر الرئيس الأمريكي، الأسبوع الماضي، سحب باقي القوات الأمريكية من شمال وشرق سوريا والاكتفاء بالقوات الموجودة في قاعدة التنف، وأشار إلى أن الأكراد عليهم أن يديروا معركتهم، وأنه لا مانع لديه أن تساند روسيا النظام السوري للقيام بدوره في مساندة الأكراد، ولوحظ أيضا أنه كلما اقتربت العمليات العسكرية من مناطق انتشار الجيش الأمريكي تنسحب القوات الأمريكية منها، وكأنها تخلي طريقا لها، وبدأ الأكراد يتحدثون عن تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عنهم، وتزايدت الأصوات المنتقدة لترامب داخل الكونجرس الأمريكي بسبب ذلك، وفجأة حدث تغير كبير في الموقف الأمريكي اتخذ مسارات متوازية أهمها:
• طرح قانون في الكونجرس لفرض عقوبات قاسية على تركيا، وتكليف الحكومة الأمريكية بموافاة الكونجرس بمعلومات كافية حول استثمارات والأصول المالية لأسرة أردوغان في مختلف دول العالم، وهو أمر يتضمن الكثير من المخاطر حول ممارسات غير مشروعة يمكن أن تدين ابن أردوغان وأسرته.
• فرض عقوبات على بنك حكومي تركي إثر مذكرة للمخابرات المركزية ووزارة الخزانة الأمريكية حول تورط مسؤولين أتراك مقربين من الرئيس التركي في الالتفاف على العقوبات الأمريكية على إيران.
• تكليف نائب الرئيس الأمريكي ووزير الخارجية بزيارة عاجلة إلى أنقرة للتوصل إلى اتفاق لوقف الغزو العسكري التركي للشمال سوري، ما دفع أردوغان لإعلان رفضه اللقاء بهما إلا أنه عاد ووافق على مقابلة الوفد، وبدا أن هناك رضوخاً لضغوط أمريكية في هذا الشأن.
• سبقت زيارة الوفد بقليل توجيه الرئيس الأمريكي رسالة إلى أردوغان تم الإعلان عن محتواها وهو ما يؤكد تسريب الإدارة الأمريكية لها تتضمن الكثير من العبارات القاسية والحادة ومتجاوزة كافة الأعراف الدبلوماسية في تخاطب رؤساء الدول فيما بينهم .
• ومن ناحية أخرى رفض أردوغان التهديدات الأمريكية ورسالة ترامب واستبق زيارة الوفد بالتأكيد على أن العملية العسكرية مستمرة، وبدأ المناورة مع روسيا التي دخلت بشدة لإجراء وساطة بين تركيا من ناحية والأكراد والنظام السوري من ناحية أخرى، وحققت روسيا بذلك حضوراً أكثر تأثيراً في تلك الأزمة على حساب النفوذ والحضور الأمريكي. وإثر وصول الوفد الأمريكي إلى أنقرة وعقد اجتماعات مطولة مع أردوغان وكبار المسؤولين الأتراك خرج الوفد ليعلن التوصل لاتفاق مؤقت لوقف أطلق النار يتم خلاله انسحاب تركي من المدن التي احتلتها، وأن تتراجع القوات العسكرية الكردية إلى مسافة 20 كيلومترا بعيداً عن الحدود التركية فيما يسمى بالمنطقة الآمنة، وقد لوحظ أن هذه المنطقة هي ما تم الاتفاق عليه في 7 أغسطس الماضي قبل بداية الغزو العسكري التركي، وكان هناك اتفاق على تسيير دوريات أمريكية تركية لضمان تنفيذ الأكراد ما تم الاتفاق عليه، إلا أن تركيا بادرت بالعملية إثر انسحاب القوات الأمريكية التي كانت تشارك مع القوات التركية في تسيير تلك الدوريات.
وإذا ما حاولنا تقدير ما جرى من الأطراف المختلفة في الفترة الأخيرة فالواضح ما يلي:
• أن الضغط الأمريكي من الكونجرس، خاصة من الديمقراطيين، دفع الرئيس الأمريكي إلى للعودة إلى الأزمة حتى لا يستثمر الديمقراطيون أي إنجاز على هذا المستوى يخصم من رصيده الانتخابي.
• أن الموقف الأمريكي ارتبط، في جانب منه، بمحاولة وقف تمدد الدور الروسي وما حققه من إنجازات في ملف الأزمة بأبعادها المختلفة وإعادة أردوغان إلى الفضاء الأمريكي ضمن الاستراتيجية الأمريكية الشاملة في المنطقة.
من الواضح أن دوائر صنع القرار الأمريكي نجحت في تغيير موقف الرئيس ترامب، وفرضت الموقف الجديد عليه إدراكاً منها أن الانسحاب الأمريكي العسكري والسياسي من الأزمة السورية لا يتوافق مع المصالح الأمريكية في المنطقة، وسيرتب تنامياً للحضور الروسي والإيراني، ويرتب كذلك سلبيات على رؤية حلفاء أمريكا في المنطقة في مدى مساندة أمريكا لهم عند الحاجة.
انتبهت الولايات المتحدة إلى أن العملية العسكرية لتركيا في ظل الانسحاب الأمريكي دفعت الأكراد إلى التفاهم مع الدولة والنظام السوري، وهو ما سمح بإعادة انتشار الجيش السوري في بعض مناطق الشمال قرب الحدود التركية، وهو أمر كانت تحظره أمريكا عليه، وبالتالي فإن هذا التطور يمكن أن يقوض الاستراتيجية الأمريكية لتجزئة الدولة السورية وبلورة كيان كردي مستقل.
وقد جاء التحرك الأمريكي كذلك في جانب منه لوقف هذا التطور حتى يحول دون تحقيق النظام السوري مزيدا من المكاسب يمكن أن تحسب لصالح روسيا في النهاية وتزيد من ثقل وتأثير النظام السوري في التطورات الجارية في حل الأزمة السورية.
الخلاصة أن الرئيس الأمريكي قد نجح في إرغام أردوغان، ليس فقط على وقف عملية الغزو التركي لشمال سوريا، ولكن للعودة إلى ما سبق الاتفاق عليه بخصوص المنطقة الآمنة، وساهم كذلك في وقف عملية المناورة التركية مع روسيا، ومحاولة استثمار تلك الورقة في التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ويرى الرئيس الأمريكي أنه قد حقق مكسباً ذاتياً كبيراً سوف يستفيد منه داخلياً في العملية الانتخابية المقبلة، وإن كان ذلك لن يؤثر على قراره بسحب القوات العسكرية من سوريا كموقف ثابت، وأن التهديد بعقوبات اقتصادية صارمة على تركيا قد نجحت في تطويع الموقف التركي بصورة واضحة، وهو ما يشير إلى أن الرئيس الأمريكي عازم على سحب كل القوات الأمريكية من الخارج قبل بداية الانتخابات، وأنه لن يشارك في أي عملية عسكرية في أي من أزمات المنطقة، وأن سلاحه الوحيد سواء في الأزمة السورية أو الأزمة النووية الإيرانية وغيرها سترتكز على العقوبات الاقتصادية بصورة رئيسية.
إن الاتفاق الذي أعلنت خطوطه العريضة لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض ويحتاج إلى توضيح خاصة بالنسبة للآتي:
• تحديد من يتولى الأمن في المنطقة الفاصلة، وعمق هذه المنطقة، وهل تتضمن المدن الرئيسية فيها.
• موقف القوات العسكرية التابعة للحكومة السورية التي انتشرت في المنطقة، وهل سيتواصل انتشارها، وما طبيعة الموقف التركي منها بعد الاتفاق.
• موقف الآلاف من الأكراد الذين تم تهجيرهم من مناطق العمليات العسكرية، وما هي الجهات التي ستتولى إعادتهم، وكذلك موقف المؤسسات التابعة للإدارة الذاتية للأكراد في المنطقة.
• موضوع تسكين اللاجئين السورين الذين كان أردوغان يسعى لتوطينهم في المنطقة على حساب سكانها الأصليين، وفضلا عن أنه يستهدف من ذلك تغيير التركيب الديموغرافي فإن ذلك يمثل مشكلة داخلية يسعى إلى حلها لمواجهة اتهامات المعارضة التركية بهذا الخصوص.
إن تحرك الإدارة الأمريكية وتهديدات الرئيس ترامب لأردوغان بصورة مباشرة وإعلان ربط زيارته إلى واشنطن بما يتم إنجازه خلال اجتماعه مع الوفد الأمريكي، قد ساهم بصورة كبيرة في تطويع موقف أردوغان، ورغم ما أعلنه الرئيس الأمريكي من إنجازات على هذا المستوى فإن الأمر لا يزال يحتاج إلى جهد سياسي كبير لتنفيذ تفاصيل الاتفاق، خاصة أن الأكراد لديهم تحفظات على التفسير التركي لبعض جوانب هذا الاتفاق، ويثور الكثير من التساؤلات حول المقابل الذي حصلت عليه تركيا ضمن هذه الصفقة.
ومن الواضح أن ما حققته الولايات المتحدة قد كشف الموقف الروسي الذي رفض الغزو التركي، لكنه سانده في الأمم المتحدة ولم يمارس ضغوطا لوقفه، وبدا واضحا الحرص الروسي على المحافظة على العلاقات الثنائية مع تركيا كأولوية ورغم حضوره ونفوذه الكبير في ملف الأزمة السورية بأبعاده المختلفة إلا أن ذلك لم ينعكس بصورة تتناسب مع ذلك على تفاعلات الأزمة.
من المرجح أن تنعكس هذا التطورات على الجهود المبذولة لحل الأزمة السوريا وعلى الموقف الكردي من هذه الجهود، حيث من المتوقع عودتهم إلى موقفهم السابق من التعامل مع الدولة السورية ومؤسساتها.