العملية العسكرية التركية في سوريا.. إعادة إحياء داعش
العملية العسكرية التركية في سوريا ستعيد تنظيم داعش إلى الواجهة وتنفخ فيه الروح من جديد، لكن هذه المرة سيكون تحت غطاء رسمي تركي
من الواضح أن تركيا تتقن انتقاء الأسماء لأعمالها العدوانية داخل سوريا، فبعد العملية الأولى التي سمتها "درع الفرات"، جاءت لنا تركيا بجديدها من الأسماء أثناء عدوانها على مدينة عفرين قبل نحو عامين والتي سمتها "غصن الزيتون"، لتأتينا اليوم باسم آخر وهو "نبع السلام"، الاسم الرسمي للعدوان التركي على مناطق الكرد في شرق الفرات.
لكن في الوقت ذاته الذي تتقن فيه تركيا انتقاء الأسماء، وللمرة الثالثة، تخطئ في اختيار الفصائل الموالية لها، فهذه الفصائل التي تعمل اليوم تحت مظلة الجيش التركي في سوريا، وفي كل مناسبة احتاجت تركيا فيها إلى الظهور بمظهر المخلص، أكدت وما زالت تؤكد زيف ما تقدم به تركيا نفسها.
- "رصاص وقصف" بسوريا يكسران وقف إطلاق النار التركي الأمريكي
- "العين الإخبارية" تنشر نص اتفاق واشنطن وأنقرة بشأن سوريا
من البداية، كانت أولى مغامرات تركيا، وهنا القصد هو المغامرات المعلنة، فأول عملية عسكرية واضحة وبشكل علني كانت العملية التي استهدفت، كما ادعت تركيا، تنظيم داعش الإرهابي في مناطق جرابلس والباب، وسمتها حينها "درع الفرات"، تيمناً بنهر الفرات الذي تقع مدينة جرابلس على ضفته الغربية. فلم تكن "درع الفرات" إلا عملية عسكرية تمت بتنسيق كامل مؤكد بين تركيا وتنظيم داعش.
لكن سرعة العمليات العسكرية حينها أحرجت تركيا وكشفت عن التنسيق الواضح بينها وبين التنظيم، ما اضطرها إلى تدمير مدينة الباب بشكل شبه كامل، لتظهر عكس ما تؤكد للعالم.
تبخر حينها مسلحو تنظيم داعش من المنطقة بسرعة، ليركزوا عملياتهم الإرهابية في باقي المناطق وانطلاقاً من الرقة، حينها أيضاً كشف داعش عن زيف العداوة بينه وتركيا، فرغم العملية العسكرية التي أقصت التنظيم من مناطق شاسعة، ورغم التهديد والوعيد من داعش بحق تركيا، فإنه لم تسجل أي عملية لداعش تستهدف الأتراك لا في الداخل التركي ولا في سوريا.
الواضح للمتابع للشأن السوري أن هدف تركيا من العملية ضد التنظيم حينها لم يكن محاربة داعش، فالتنظيم بقي مسيطراً لسنوات على جرابلس وتل أبيض الحدوديتين، دون أن تحرك تركيا ساكناً، والسبب الذي دفع الأتراك لإدراك خطر داعش على حدودهم فجأة كان تقدم قوات سوريا الديمقراطية من جهة منبج تجاه مدينة الباب، ما كان يؤمن وصل إقليم عفرين التابع آن ذاك للإدارة الذاتية، بإقليم كوباني، والتدخل السريع لتركيا، كان لهذا السبب، لكنه كان بطريقة فجة وواضحة.
فيما بعد، بدأت تركيا بالتحضير لمعركة تقضي على الوجود الكردي في عفرين، وهو الحلم الذي ما انفك يراود الأتراك، وبدأت الآلة الإعلامية التركية والمتماهيات معها من المؤسسات الإعلامية السورية المحسوبة على المعارضة السورية بالتجييش لهذه المعركة.
حينها أيضاً اختارت تركيا الاسم بإتقان وهو "غصن الزيتون" الذي يدلل على السلام، إضافة إلى أن شجر الزيتون جزء من الهوية العفرينية، لكن ما إن بدأت المعارك حتى بدأ موالو تركيا من التنظيمات الإرهابية الذين سموا تنظيماتهم بأسماء تبعد عنهم شبهة الإرهاب، لكن أفعالهم فضحتهم، بدأت هذه التنظيمات الموالية لأردوغان بارتكاب جرائم حرب بشعة من استهداف للمدنيين وللبنية التحتية وسرقة ممتلكات الكرد سكان عفرين الأصليين، وتهجيرهم من منازلهم، وهذه الانتهاكات ما زالت مستمرة حتى اليوم، وفقاً لتقارير حقوقية.
إذن في عفرين أيضاً فشل الأتراك في انتقاء مرتزقتهم، ليفرغوا الاسم المتقن من معناه، وأصبحت عفرين وما يجري فيها اليوم وصمة عار تضاف إلى الوصمات التي تزين وجه الحكومة التركية.
اليوم تدور في شرق الفرات وفي سري كانيه وتل أبيض تحديداً رحى معركة أخرى، بدأتها تركيا مستهدفة الكرد في المنطقة، وباقي المكونات التي ترفض الوجود التركي، وهي أيضاً تحمل اسماً يظهر إتقان الأتراك في اختيار أسماء عملياتهم العدوانية، وفي هذه المرة أيضاً كشفت الفصائل الموالية لأردوغان من تفريخات تنظيم الإخوان الإرهابي عن زيف ما تدعيه تركيا، لكن هذه المرة استعجل موالو أردوغان فعلتهم، فحتى قبل أن يدخلوا الأراضي السورية انتشرت مقاطع مصورة لهم، وهم يرددون شعارات تنظيم داعش الإرهابي من قبيل "باقية باقية" و"بالسيف جيناكم"، وما إن احتلوا أول القرى الحدودية حتى قاموا بعمليات إعدام ميدانية، في مشهد مطابق لأسلوب داعش في تنفيذ الإعدامات.
من نافل القول، إن مثل هذه العملية العسكرية التي تستهدف مناطق شاسعة من سوريا ستحول المنطقة لساحة حرب مفتوحة، وستنتج عنها كارثة إنسانية قد تكون الأفظع.
وهذا ما يدلل عليه نزوح أكثر من 200 ألف مدني من سري كانيه وتل أبيض وكوباني، والعدد دوماً مرشح للازدياد مع استمرار العمليات العسكرية، وهذا يذكر بما جرى في مدينة عفرين، إبان الغزو التركي لها، بالتشارك مع فصائل موالية لأردوغان تحسب نفسها على المعارضة السورية، فأفرزت تلك العملية في أيامها الأولى حركة نزوح بلغت أكثر من 200 ألف نازح، حسب إحصائيات أممية، عداك عن أعداد الضحايا من المدنيين جراء العمليات العسكرية والقصف التركي المكثف الذي لم يفرق حينها بين المناطق العسكرية والمدنية، حيث تحولت المدينة وريفها لمستنقع أشبه بالجحيم للمدنيين سكان المنطقة الأصليين.
استحضار عفرين ليس من فراغ، فأردوغان ذاته وفي أحد خطاباته التهديدية قبل انطلاق العدوان، قال إنهم سيفعلون ما فعلوه في عفرين والباب وجرابلس، وحتى هاتين الأخيرتين لهما ماضٍ وحاضر أليم مع الوجود التركي والفصائل العسكرية المدعومة تركياً، فأثناء الحملة العسكرية التي استهدفت تنظيم داعش في الباب، تحولت المدينة إلى أرض يباب، ودمرت المدينة على رأس سكانها، لتتحول فيما بعد هذه المناطق؛ أي الباب وجرابلس والراعي وأعزاز، إلى مرتع لفصائل عسكرية مدعومة وموالية لأردوغان، باتت تستهدف المدنيين حتى في أرزاقهم، لكن تركيا عرفت كيف توظف الآلة الإعلامية خاصتها لتغطي على ما يحدث من انتهاكات وفلتان أمني في المنطقة تلك.
في شرق الفرات الوضع أكثر تأزماً، فهذه المناطق خرجت لتوها من تحت وطأة تنظيم داعش، ولم يكن القضاء على هذا التنظيم في المنطقة المعنية بتلك السهولة التي سيطر فيها أردوغان وحلفاؤه على مدينة جرابلس التي سيطر عليها الجيش التركي إلى جانب فصائل المعارضة في ليلة وضحاها بعد أن أفرغ تنظيم داعش المدينة من المسلحين.
استلزم القضاء على تنظيم داعش في شرق الفرات ابتداء من كوباني وانتهاء بدير الزور، عمليات عسكرية استمرت لسنوات بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وكل دول التحالف الدولي ضد داعش، إضافة لأكثر من 10 آلاف من أبناء المنطقة كمقاتلين ضمن صفوف قوات سوريا الديمقراطية، ولم تنته عمليات ملاحقة بقايا التنظيم وخلاياه النائمة حتى يومنا هذا.
تضاف إلى ذلك، وهنا الحلقة الأكثر تعقيداً، مسألة مسلحي التنظيم الأسرى لدى قوات سوريا الديمقراطية وعوائلهم، والبالغة أعدادهم، حسب آخر التصريحات، أكثر من 70 ألف مقاتل أسير مع نسائهم وأطفالهم، هم اليوم موزعون على مراكز اعتقال ومخيمات خصصت لعوائل هؤلاء الأسرى، وهي بحد ذاتها مركز خطر ونذير بعودة التنظيم في أي لحظة تسنح له الفرصة فيها، وهذا ما تؤكده التقارير والتحقيقات الصحفية التي تخرج من مخيمات ومراكز الاعتقال تلك، من هروب لمسلحي التنظيم وبمساعدة من الجيش التركي ومرتزقته، في السجون التي استطاعوا الوصول إليها، وهذا ما أكده مسؤولون أمريكيين أيضاً بعد أن اتهم ترامب قوات سوريا الديمقراطية بالأمر.
القصد أن "نبع السلام" الذي يبشر به أردوغان، هو نبع سيفيض بالإرهابيين، وسيعيد داعش إلى الواجهة وينفخ فيه الروح من جديد، لكن هذه المرة سيكون تحت غطاء رسمي تركي، ليس من الصعب دمج مسلحي داعش المعتقلين حالياً ضمن صفوف مرتزقة أردوغان من السوريين، فالفكر هو ذاته، وحتى اللهجة والمصطلحات والآباء الروحيون هم ذاتهم لكلا الطرفين، لكن من الصعب جداً إن عاد التنظيم في هذا القالب الحديد تفكيكه من جديد.
ختاما؛ يمكن القول إن أردوغان يسعى إلى إقامة دولة داعشية، ليكسب ورقة أخرى يهدد بها العالم، بعد أن استغل ورقة اللاجئين.
aXA6IDMuMTQyLjE3MS4xMDAg جزيرة ام اند امز