واشنطن تدرك جيدا أن مرحلة انتقالية بهذا الشكل ستزيد من تعقيدات الملف السوري وتشابكاته، وهو ما تريده طهران أكثر من غيرها.
حتما لم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية كل هذا الدعم لمجموعات "قوات سوريا الديمقراطية" حليفها المحلي الوحيد في سوريا وتوفر له الغطاء والتدريب والتسليح، وهي لم تؤسس في شمال سوريا وشرقها كل هذا العدد من القواعد العسكرية وتجهز هذه المدرجات الحربية هناك، وتجلس فوق أغنى مناطق سوريا في إنتاج النفط والمحاصيل الزراعية، لكي يعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ويعلن الانسحاب من المشهد بمثل هذه البساطة، مفرحا خصومه ومقلقا أعوانه وشركاءه.
كثر هم الذين لم يقبلوا قرار الرئيس الأمريكي الأخير، وأكثر منهم هم الذين يتبنون قناعة أن أولى ارتداداته ستكون ملء موسكو وطهران وأنقرة لهذا الفراغ، وأن الاستقالات الاحتجاجية التي بدأت مع وزير الدفاع جيمس ماتيس والمبعوث الأمريكي الخاص للتحالف الدولي ضد "داعش" سيعقبها المزيد من المفاجآت
فهل من المنطقي أن تغادر واشنطن سوريا بهذا الشكل المحير لصالح النظام في سوريا عبر تسليمه مناطق نفوذ "قسد" في شرق الفرات ليتحول هو إلى قوات فصل بين الوحدات الكردية والجيش التركي؟ ألا يعرف ترامب مثلا ما يردده أكثر من قيادي غربي حول مخاطر التخلي عن حليف محلي قاتل إلى جانب التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، وأن عملية عسكرية تركية في شرق الفرات ستطيح بهذا التنسيق بين "قسد" والغرب لصالح تحالف الأستانة الذي يضم إيران التي تقول واشنطن إنها تريد إخراجها من سوريا؟ وهل تفتح خطوة من هذا النوع الطريق حقا أمام تفاهمات أمريكية روسية تنتقل بسوريا من مرحلة القتال والاصطفافات الصعبة إلى مرحلة التسويات السياسية، وواشنطن تدرك جيدا أن مرحلة انتقالية بهذا الشكل ستزيد من تعقيدات الملف السوري وتشابكاته، وهو ما تريده طهران أكثر من غيرها؟ وكيف يتابع ترامب ردود الفعل داخل فريق عمله والاستقالات المتلاحقة والرفض المتزايد لقرار يتخذ دون حسابات الربح والخسارة بشكل مدروس ويمنح لاعبين كثيرين الفرصة والوقت لمواصلة خطط تقاسم النفوذ والمصالح في سوريا مما سيقلب حسابات الإدارة الأمريكية رأسا على عقب ليس في شرق سوريا وحدها بل في سوريا والعراق ولبنان وربما المنطقة بأكملها؟
أعلن السناتور الجمهوري ليندسي جراهام المقرب من ترامب بعد لقائه به أن "الرئيس مصمّم على ضمان أن يكون تنظيم داعش قد هُزم بالكامل عندما نُغادر سوريا". لكن هذا لن يكفي أحدا لأنه لن يزيل تساؤلا مفاده: هل سترضى واشنطن أن تتحمل مسؤولية ما يقال اليوم حول دخولها الغامض واللامدروس قبل 3 أعوام إلى الساحة السورية وخروجها بالشكل نفسه من المشهد، وبما يتعارض مع أجندتها المعلنة في أن إنهاء وجودها في سوريا والمنوط بإنهاء "داعش" وتحجيم الدور الإيراني وإيجاد تسوية سياسية شاملة هناك؟
ليس منطقيا أن نسلم بما يقوله البعض حول أن يكون الهدف الأمريكي التخلي عن كل ما بني في العامين الأخيرين من خطط وتحالفات وتفاهمات مع العديد من اللاعبين المحليين والإقليميين الذين يتابعون المشهد السوري فقط للاستثمار في خطة نشر المزيد من الاهتزاز في العلاقات بين دول تحالف الأستانة وبين أنقرة والنظام في سوريا، لا يمكن لترامب أن يقنع أحدا بمقولة أن للضرورة أحكامها، وأن ثمن الإيقاع بين الدول الضامنة سيتقاسمه البيت الأبيض وحليفه الكردي في سوريا.
أول الردود السريعة في التعامل مع القرار الأمريكي جاءت من موسكو نفسها التي أعلنت أن تركيا متمسكة بخططها لشن عملية عسكرية ضد المقاتلين في "وحدات حماية الشعب" الكردية في شمال شرقي سوريا، لكنها قد تتراجع عن ذلك لصالح دخول قوات النظام في سوريا إلى المناطق الحدودية التركية السورية لتسلمها، لا يمكن لترامب وفريق عمله أن يكون قد فاتهم هذا السيناريو البسيط الذي يعد له الكرملين.
قرار الانسحاب سيناقش مطولا في المحافل الأمريكية والعالمية على مستوى الحلفاء والأعداء، لكنه لن يكون مقنعا ومبررا:
طالما أن جيمس جيفري المبعوث الأمريكي إلى سوريا كان يقول لنا قبل أيام فقط على القرار إن هزيمة "داعش" هي جزء من حملة أمريكية طويلة الأمد؟ وجوزف دانفورد رئيس هيئة الأركان يجدد التأكيد على أنه ما زال أمام أمريكا مهمة تجهيز جيش قوي يضمن عدم عودة إرهاب داعش إلى سوريا.
وأن أصواتا مؤيدة ومعارضة تحت سقف البنتاجون والكونجرس وجهاز الاستخبارات الأمريكية تقول: إن خطوة من هذا النوع ستفسح المجال لروسيا وإيران لإدارة اللعبة في سوريا كما تشاءان، وتركيا ستعطيهما ما تريدان إذا حصلت بالمقابل على ما تريده.
وأن الرئيس التركي يكرر أن الولايات المتحدة لم تُوفِ بوعودها حول منبج، وأن أمريكا تحاول تعزيز وجودها العسكري في شمال سوريا بالتعاون مع مجموعات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وأن تفاهمات الأستانة الثلاثية مستمرة ولن يكون بمقدور أحد عرقلتها.
كثر هم الذين لم يقبلوا قرار الرئيس الأمريكي الأخير، وأكثر منهم هم الذين يتبنون قناعة أن أولى ارتداداته ستكون ملء موسكو وطهران وأنقرة لهذا الفراغ، وأن الاستقالات الاحتجاجية التي بدأت مع وزير الدفاع جيمس ماتيس والمبعوث الأمريكي الخاص للتحالف الدولي ضد "داعش" سيعقبها المزيد من المفاجآت.
القناعة في تركيا هي أن الرئيس الأمريكي قرر تغيير سياسة بلاده السورية لصالح أنقرة، وأن فرص المناورة التركية على خط واشنطن-موسكو تزايدت بعد هذا القرار، لكن موسكو لا تتوقف عن ترداد أن مصالح النظام في سوريا هي نقطة الفصل في الشراكة التركية الروسية.
ترامب من ناحيته يريد البناء على هذا الأساس، لذلك قرر تحريك الرماد تحت هذه العلاقة، لا بل هو يتطلع إلى أبعد، فمن خلال مناورة سحب القوات يريد أن يكون قد نجح في التخلص من عبء التفاهمات الثلاثية تحت سقف الأستانة والثنائية في سوتشي، لكن الإعلامي سردار تورغوت أحد أهم المحللين الأتراك الذي يعمل في واشنطن يقول: يبدو أنه ليس هناك خطة أمريكية ولا استراتيجية جديدة في سوريا، كل هذه التطورات الأخيرة يمكن تفسيرها بأنها نابعة من أسلوب ترامب في الإدارة واستمتاعه بمباغتة الآخرين.
السيناتور جراهام نفسه يقول كلاما مشابها عندما يشير إلى أن الرئيس ترامب صحح الموقف من خلال موافقته على إعادة تقييم خططه بشأن الانسحاب الفوري من سوريا، بطريقة ذكية وبطيئة، شين روبرستون المتحدث باسم البنتاجون يعزز هذا الطرح بالإشارة إلى أن نقاش مصير الأسلحة الأمريكية المقدمة لقوات "قسد" أمر سابق لأوانه، الواضح إذًا أن مهمة جون بولتون مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي الذي حزم حقيبته باتجاه أنقرة ستكون صعبة للغاية، فهو قد يكون ذهب لإقناع الأتراك أن ترامب أراد ممازحتهم باكرا وقبل قدوم الأول من أبريل/نيسان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة