سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك منظومته وانهيار جدار برلين جعل الولايات المتحدة تتسيد العالم بلا منازع
بعد تبرئته من التهم الموجهة إليه من قبل مجلس الشيوخ، غرّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصة "تويتر" تغريدة رآها الكثيرون غريبة، وتحمل نَفَسا كيديا ضد خصومه الديمقراطيين، الذين أشهروا كامل أسلحتهم بوجهه في الكونجرس ومجلس الشيوخ الأمريكيين، لعزله من منصبه أو على الأقل إلحاق أضرار جسيمة بسمعته والتشكيك بأهليته لقيادة البلاد، وبالتالي حرمانه من فرصة الفوز بولاية رئاسية ثانية.
صفحات التاريخ تحتوي على مصطلحات "روسيا الستالينية والبوتينية وفرنسا النابليونية والديغولية وبريطانيا التاتشرية، وألمانيا الميركيلية وتركيا الأتاتوركية"، فلماذا لا يضاف إليها مصطلح "أمركيا الترامبية"، بتفوق يضمن لها كل مقومات قيادة العالم ويجعلها مرجعيته الأولى والأخيرة؟
ترامب وضع في التغريدة المشار إليها صورته "شامخا منتشيا" مُرفِقاً بها تواريخ الانتخابات المقبلة بمشهدية بانورامية، قبل أن يختمها بعبارة: "ترامب للأبد"، في محاكاة رآها البعض تشبهاً بتصرفات "الديكتاتوريين العالمثالثيين".
هذا يبدو الشكل الظاهر للتغريدة، غير المتوقعة، من رئيس تحكم بلاده وتتحكم بها المؤسسات وليس الأفراد. أما في عمقها فأعتقد أنها رسالة موجهة لداخل الولايات المتحدة وخارجها بأن مرحلة جديدة من تاريخ أمريكا قد بدأت، وسِفراً جديداً من تاريخها سيُكتب كما يريده ترامب، الذي بدأ عهده بصخب عمّ صداه العالم أجمع، ما دفع بالمراقبين للتحذير من أن هذا الرئيس القادم من عالميِّ حلبات المصارعة الحرة والمال والأعمال، بكل ما فيهما من إثارة وعنف وتسويات وصفقات، سيقوّض النظام العالمي برمته.
قد يجادل البعض بالقول إن التحولات الكبرى في دولة المؤسسات لا تخضع لطموحات أو رغبات شخص أو حزب أو جماعة، بل هي من اختصاص الدولة العميقة التي تخطط وترسم لعقود مقبلة، حتى الرئيس تصنعه بناء على مصالح البلاد وجماعات الضغط واللوبيات. ونرد على هؤلاء بالقول: هذا صحيح، ولكن لماذا لا نقول أيضاً إن الدولة العميقة قررت هذا إجراء هذا التحول، وكان لابد من تصنيع سيد للبيت الأبيض بكل مواصفات ترامب؟.
فبعد انتهاء الحرب العامية الثانية، تم التوافق على نظام عالمي بقطبيه؛ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، يقوده عسكريا حلفا "الناتو" و"وارسو"، ولكلِّ قطب منهما حلفاء وتابعون على امتداد العالم، واستغرق استقراره وقتاً ليس قصيراً، واجه خلاله أزمات وصلت حد الاشتباك المباشر بين رأسيه، قبل أن يدخل مرحلة استقرار ظاهر شهدت سباقاً تسلحيا ونوويا واستخباريا، لتصل حربهما إلى "النجوم"، ولكنها ظلت باردة و ردعيّة وحسب.
سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك منظومته وانهيار جدار برلين جعل الولايات المتحدة تتسيد العالم بلا منازع، وفتح الحدود على اتساعها أمام انتشار ثقافتها التي ظلت لعقود عصيّة على اقتحام مضارب "الاشتراكية".
هذه التطورات أشعرت واشنطن بالنشوة وراحت ترسخ أقدامها في كل مكان، ووصلت إلى عمق الجمهوريات التي كانت معقلاً وخزانا بشرياً وأيديولوجيا لخصمها السوفيتي مستغلة كل الظروف، وبخاصة ضعف رئيس روسيا الاتحادية، آنذاك، بوريس يلتسن.
وخاضت بعد ذلك حربين لم تحسما نهائيا إلى اليوم في أفغانستان والعراق، بعد أن أصيبت بقلبها يوم ضرب تنظيم القاعدة برجي التجارة الدولية في منهاتن ومقر وزارة الدفاع.
ولكن صعود نجم الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، والإنجازات التي حققها منذ اعتلائه هرم السلطة وتمكنه منها، وضع تحديات أمام "الحلم الأمريكي الجديد"، وعقبات أمام تموضع "العالم الجديد" الذي بشّر به الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب. وجاء صعود نجم الصين وتغلغلها اقتصاديا وتقنيا في العالم تحديا آخر لواشنطن، التي شنت حروباً تجارية على هذا التنين متعدد الرؤوس.
كما شهد العقدين الماضيين بزوغ نجم الإسلام السياسي مجدداً واستعداده لشن الحروب للوصول إلى السلطة بزعم منه أنه الأكثر أحقيّة بها بعد فشل كل المشاريع السياسية الأخرى في واحدة من أكثر بقاع النفوذ الأمريكي حساسية؛ منطقة الشرق الأوسط كتحدٍّ آخر. واستراتيجية الرئيس السابق باراك أوباما التي قامت على مهادنة هذا التيار وتمكينه، أثبتت خطأها الفادح، وليس أدلّ على ذلك من نشوء "داعش" والاتفاق النووي مع إيران، الذي مكنّها من إثارة الفتن وزعزعة الأمن والاستقرار في محيطها.
الرئيس ترامب دخل البيت الأبيض بروح "الثائر" على إرث خلفه كاملاً، ولم يترك مناسبة إلا وهاجم سياساته التي ألحقت، بحسبه، ضرراً كبيراً بالأمة الأمريكية. وسواء أُعجبنا بسلوك الرئيس ترامب أم غضبنا منه، فقد أثبتت السنوات السابقة من عهده بأنه من أكثر رؤساء الولايات المتحدة التزاماً بتنفيذ وعوده لناخبيه، وحقق إنجازات تُحسب له في الداخل، وخاصة في المجال الاقتصادي وتوفير فرص العمل للأمريكيين.
وعلى صعيد الخارجي، أثبتت السنوات الماضية من ولاية ترامب أنه من أكثر رؤساء الولايات المتحدة ديناميكية فيما يخص مصالح بلاده، ولا غضاضة عنده من الانقلاب على أي قرار يتخذه إذا تثبت له أنه لا يخدم هذه المصالح، ليجسد بذلك أعلى درجات "البراغماتية" التي تطبعت بها الولايات المتحدة منذ نشأتها.
كما خاض حروبه التجارية بجسارة، ولا يزال، مع الصين بعدما أدرك أنها أخطر على أمريكا من روسيا العدو التقليدي، ولأنه رجل مال وأعمال رفع من شأن حرب العقوبات الاقتصادية والحروب "السيبرانية" وقلّص من وجود بلاده العسكري في غير بقعة من العالم، مع تأكيده على جاهزيته القصوى دائماً للسيناريوهات الأسوأ. والأمر ذاته قام به مع كوريا الشمالية، حيث لا يزال مؤمناً بقدوم اليوم الذي سيحررها فيه من معسكرها الحالي وسحبها إلى معسكره.
لم يهادن ترامب، كما فعل أسلافه، حلفاءه في "الناتو"، بل طالبهم على رؤوس الأشهاد بالإيفاء بالتزاماتهم، ورفض تحمّل بلاده الجزء الأكبر من تكاليف وأكلاف هذا الحلف.
وعلى الملأ مزق الاتفاق النووي مع إيران، وفرض عليها عقوبات اقتصادية صارمة أوجعت كبدها وقتل أبرز قادتها الجنرال قاسم سليماني، قبل أن يدعوها لإبرام اتفاق جديد يكفل تغيير سلوكها التنمري والتوسعي في المنطقة.
وفي شأن القضية الفلسطينية، قال كلمته الفصل المحابية بالطبع لإسرائيل، وأعلن "صفقة" نهائية للحل متجاهلاً كل القرارات الدولية ذات الصلة الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وكأنه يريد القول: "الكلمة النهائية لأمريكا، التي لن تبالي بمؤسسات دولية تاريخها حافل بالفشل ومضيعة الوقت".
ومنذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة، أرسى دونالد ترامب أسلوباً جديداً للتخاطب مع العالم كاسراً كل القواعد السابقة، باستخدامه منصة "تويتر" للتحدث داخليا وخارجيا، بدلاً من المؤتمرات الصحفية التي تحتاج إلى إعداد بروتوكولي ولوجستي مسبقين. وسار على خطاه في هذا المجال أبرز أعضاء إدارته.
واليوم، كل المؤشرات واستطلاعات الرأي تؤكد أن ترامب سيفوز بولاية رئاسية جديدة في انتخابات نوفمبر المقبل، بخاصة أن السباق الرئاسي لم يُفرز بعد أي شخصية بثقله وشعبيته وكاريزميته.
كل ما سبق يؤكد أننا نشهد "عصر ترامب" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حيث استطاع فرض ما يريد سواء باللين أو بالقوة. وعلى مستوى الولايات المتحدة أرسى قواعد جديدة في السياسة كرّست وجهاً وفلسفة جديدتين لن يستطيع أي رئيس قادم، جمهوري أو ديمقراطي، تجاوزها أو تغييرها بسهولة.
وعندما أعلن شعار "ترامب للأبد"، كان يعلم أنه راحل لا محالة، ولكنه على ثقة أيضاً من أن وجه "أمريكا الترامبية" سيدوم لعصور مقبلة. فقال ما قال دون التفات لـ "فضائل بنجامين فرانكلين الثلاث عشرة"، وأكثر من ذلك هو لن يمانع أبداً إزالة صورة فرانكلين عن الدولار الأمريكي واستبدالها بصورته الشخصية.
وقال ما قاله وهو يدرك أيضاً أن صفحات التاريخ تحتوي على مصطلحات "روسيا الستالينية والبوتينية وفرنسا النابليونية والديغولية وبريطانيا التاتشرية، وألمانيا الميركيلية وتركيا الأتاتوركية"، فلماذا لا يضاف إليها مصطلح "أمريكا الترامبية"، بتفوق يضمن لها كل مقومات قيادة العالم ويجعلها مرجعيته الأولى والأخيرة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة