لم يبقَ سوى بضعة أيام للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض.
والديمقراطيون يتهمون ترامب رسمياً بالتحريض على التمرد والعصيان، ويدعون إلى عزله من منصبه وتجريده من سلطاته الرئاسية، لأنه قام بتقويض أسس الديمقراطية، ثم تفعيل المادة الخامسة والعشرين في الدستور الأمريكي، وبخاصة حين يصبح ترامب عاجزاً عن أداء مهامه الرئاسية.
الرئيس ترامب من شأنه الآن المراهنة على أسلوب كيفية التعاطي مع الانسحاب من البيت الأبيض، أيبقى على غلوائه متمسكاً بسدة الحكم ومحرضاً أعوانه على دخول بايدن إلى مقر الرئاسة وما ينطوي عليه موقفه من مشاكل متفاقمة وساخنة تسحق القيم الديمقراطية التي ظلت الولايات المتحدة تنادي بها عبر قرابة قرنين من الزمن، فهو الذي يتمتع بممارساتٍ سلطويةٍ، وفي التمسك بجدلية الإرضاخ والرضوخ التي يتَّبعها مع أعضاء إدارته، وتتناسج بصورة لا شعورية مشكِّلةً رياحاً تعصف في أجواء إدارته، كاسحةً مواقفه ورافضةً تخبطه في اتخاذ قراراته السريعة والمفاجئة، وقبل توجيه أنصاره للتظاهر والتحريض وإثارة العنف غرّد ترامب قائلاً: "مظاهرات كبيرة في واشنطن يوم السادس من يناير كونوا هناك، المظاهرات ستكون جامحة"، ثم كتب أنه "لا يملك الشجاعة لحماية البلد والدستور"، وأدلى بتصريحات "لن نستسلم ولن نتنازل أبداً عندما يكون هناك موت لن نتركهم يُسكِتون أصواتنا".
وبشكل مهين للديمقراطية لإبقاء الرئاسة لديه، ورغم التفاعلات التي نجمت عن المشاهد المؤلمة في مسار الديمقراطية وسقوط عدد من الضحايا، ظل ترامب يكرر مزاعمه الواهية حول التزوير، وكأنه يوحي لأنصاره بأن يبقوا مكانهم متمردين، وقال رودي جولياني المحامي الشخصي لترامب: "يجب حل الخلافات الانتخابية في ميدان المعركة"، في إشارة إلى المواجهة الحتمية في الميدان، وكانت رسالة نجل دونالد ترامب الأكبر لأعضاء حزبه الذين لن يقاتلوا من أجل رئيسهم: "لم يعد هذا حزبهم الجمهوري بعد الآن، إنه حزب دونالد ترامب الجمهوري".
ويتردد أمام الرأي العام أن ما جرى من اقتحام للهيئة البرلمانية يشكل تهديداً للأمن القومي وتجاوزا لكل الأعراف والمواثيق الدستورية عامة، والذين نفذوا أعمال الشغب هم متطرفون لا يختلفون عن سائر الحركات المسلحة، وليس بعيداً أن تظهر فيما بعد مجموعات يمينية جديدة متطرفة، تنهض من تحت الرماد على غرار المجموعات اليمينية في الأعوام السابقة، تعيث فساداً وتحدث شرخاً وتصدعاتٍ في المجتمع الأمريكي، فحركة بوغالو بويز هي حركة أمريكية يمينية متطرفة، وأعضاؤها في العادة مسلحون بشكل كبير وعادة ما يلبسون سترات واقية وقمصان هاواي ذات الألوان الاحتفالية، وظهروا في المظاهرات ضد الإغلاق بسبب مرض كوفيد-19 ووحشية الشرطة، وجرت اعتقالات من أعضائها، والحركة خليط من الخطاب المعادي للحكومة المبشر بنهاية العالم والتبشير بالتعديل الثاني في الدستور الأمريكي، والذي يتعلق بالحق في امتلاك السلاح والكوميديا السوداء، والمصطلح نفسه يشير إلى الحرب الأهلية المرجوة والتي ستؤدي إلى انهيار المجتمع، واستبداله بدولة عرقية بيضاء، وحتى قبل جائحة كورونا كان إرهاب العنصريين البيض يشكل تهديداً متزايداً.
ومع حلول عام 2018م ازداد نشاط الحركة، وسبق أن شهد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، كريستوفر وري، أمام الكونجرس بأن المتطرفين العنصريين البيض كانوا المصدر الأساسي لحوادث العنف القاتلة المحفزة أيديولوجيا، على مدى العامين السابقين، وكان عام 2019م الأسوأ من حيث عنف المتطرفين البيض منذ تفجير أوكلاهوما عام 1995م، حينها حظيت هذه المشاهد المأساوية بانتباه أكبر، إلا أن تهديد التطرف القائم على العنصرية والذي يشكل الاستعلاء الأبيض جزءاً منه كان يتزايد بانتظام في السنوات القليلة الماضية وإلى اليوم.
وفي خضم مجموعة من التراكمات السياسية المتباينة والصراعات العنصرية تصاعد دور الحركات اليسارية الاحتجاجية في مواجهة يمين متطرف، لتظهر على سطح الأحداث الأخيرة التي أعقبت مقتل جورج فلويد حركة أنتيفا، وتقابلها تصريحات على شبكات التواصل الاجتماعي لأنصار ترامب، وأبدى بعضهم خلالها استعداداً تاماً للنزول إلى الشوارع والمواجهة لوضع العراقيل للرئيس بايدن، ويظهر الشارع الأمريكي في حالة قلق واضطراب، والاتهامات متصاعدة ما بين الأطراف السياسية، وكلهم يتهمون بعضهم بالتهاون والتقصير في إدارة شؤون الولايات.
ترامب أغرق بلاده في الفوضى وأحدث عدة أزمات داخلية وخارجية، بينها الإغلاق الحكومي الجزئي، واستقالة العديد من الشخصيات من مناصبهم إضافة إلى التوترات القائمة بينه وبين المجلس الاحتياطي الاتحادي الفيدرالي، ما أدى إلى بروز صعوبات جمة نتيجة سياساته المتذبذبة واختياراته العشوائية لكثير من القادة العسكريين والمسؤولين الذين انتقاهم وفقاً لمصالحه التجارية والمالية، وهو ما أعطى عنه انطباعات سلبية كثيرة جعلته متشبثاً برأيه ومخترقاً المؤسسات العامة ومبادئ الديمقراطية.
ثمة ما يشير إلى أخطار جسيمة مستقبلية ما بعد رئاسة ترامب جراء عمليات الاستفزاز الداخلي والشغب الناجم عن المواقف التي أفرزها الحكم الترامبي والعنصرية الشعبوية المتجذرة في الحياة الاجتماعية، وبذلك تفاقمت حدة التحركات المتطرفة ولا تختلف عن تجمعات مسلحي داعش في العالم قتلاً وتخريباً، والهجوم على الكونجرس بحد ذاته عملية مدبرة ومخطط لها بإتقان، وأظهرت حينها الانقسامات المتباينة في صفوف الحزب الجمهوري، والمجموعات المقتحمة للبرلمان كانت تتحين الفرصة للنهوض، والانقضاض على المؤسسات الأمريكية، لإحداث فوضى عارمة تؤدي إلى انهيار المجتمع الأمريكي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة