ستبقى ليلة اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكي واحدة من الأحداث المؤثرة والفارقة في التاريخ الأمريكي الحديث.
قد تتساوى في أهميتها مع تلك الليلة التي أعلن فيها "بوش الأب" تأسيس النظام العالمي الجديد في يناير 1991، كما أنها تتشابه مع ليلة سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1989.
التشابه هنا ليس من باب المبالغة، وإنما من باب التأثير، فكما بدأ تأثير الأحداث السابقة خارجيا ثم انتهى داخليا، يتحرك تأثير حادثة اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكي عكسيا، إذ يتركز داخليا أكثر منه خارجيا.
اقتحام مبنى الكونجرس من قِبل تكوينات اجتماعية وسياسية في الداخل الأمريكي يعد مؤشرا خطيرا على تراجع القيم الأمريكية التي اشتغل عليها جيل الحكام منذ بداية تسعينيات القرن الماضي حتى لحظة الاقتحام.
القيم الأمريكية الليبرالية أو الرأسمالية أو حتى النموذج الأمريكي الديمقراطي التقليدي، كلها الآن في محك شديد الخطورة، تقتضي من القائمين عليها ضرورة إعادة تقييمها من جديد.
القيم التي اشتغل عليها وكرسها أصحاب النموذج الليبرالي الأمريكي الأوائل أمثال "فوكوياما وهنتنجتون وغيرهما" وصلت إلى درجة استنزاف المفهوم والتجربة. الذين يقولون إن تلك الحادثة أوجدت شرخا في المجتمع الأمريكي مخطئون، لأن تلك الظاهرة هي نتاج ذلك الشرخ وليست سببا فيه.
الانقسام المجتمعي الأمريكي واضح أنه ازداد في الأعوام الأربعة الماضية، قد يعود إلى ما قبل ذلك، وقد يكون انتخاب رئيس مثل ترامب من خارج دواليب السياسة الأمريكية، نتيجة أيضا لحالة الانقسام المجتمعي، ونتيجة أيضا لحالة الرفض التي ازدادت في داخل المجتمع تجاه القيم الأمريكية المتعلقة بالديمقراطية أو الرأسمالية، التي أدت بطبيعة الحال إلى ازدياد الفجوة بين الطبقة السياسية في أمريكا المتمثلة في الحزبين الكبيرين "الجمهوري والديمقراطي"، وتركيبة المجتمع الأمريكي بنخبه ومؤسساته المدنية.
المعالجات التي تمت وتفاعلت بعد الظاهرة قد تزيد الأمر انقساما وتعقيدا أكثر ما تعالجه، فالانقسام قد يتعمّق في داخل الحزب الواحد، وتحديدا الحزب الجمهوري الذي انقسم بالفعل، هناك مَن وقف مع "ترامب" وكثيرون انحازوا للنموذج الديمقراطي الأمريكي، وأولهم نائب الرئيس "مايك بنس"، وقد يستمر ذلك الانقسام طويلا.
الانقسام قائم فعلا بين الحزبين، لكن واضح أن الحزب الفائز "الديمقراطي" والحزب الخاسر "الجمهوري" عليهما البحث في قيم جديدة تتجاوز قيم الحزبين، وأقصد هنا قيما مجمعة وموحدة في آنٍ واحد، وهي قيم تتعلق بتعميق المفهوم الديمقراطي الأمريكي.
قد تحدث مطالبات بتعديل الدستور الأمريكي، ويكون هناك تشديد أكثر على اختيارات شخصية الرئيس.
أما التكوينات التي اقتحمت مقر الكونجرس، فالأمر سيكون شديد الخطورة، لأن تلك التيارات موجودة وفاعلة سواء اليسار الراديكالي، أو اليمين الراديكالي وما بينهما، تلك تيارات ناقمة ورافضة لكثير من المشاريع السياسية والكثير من الشخصيات السياسية نفسها، وضعهم جميعا في خانة الخونة والمخربين وأعداء أمريكا قد يدفعهم إلى انتهاج وسائل غارقة في العنف.
الشريحة الأخرى التي يجب التعامل معها بحذر شديد وهي الخمسة وسبعون مليون أمريكي الذين انتخبوا ترامب وأعطوا أصواتهم له، هؤلاء الآن يشكّلون كتلة سياسية حتى لو كانت غير منتمية، يمكن أن يتم تأطيرهم في كيان سياسي، كما يصرح ترامب، حتى لو كان كيانا "سيبرانيا"، أي منصة إلكترونية مثل "تويتر وفيسبوك" وغيرهما.
وهنا سنكون أمام ظاهرة جديدة، وهي خلق أحزاب سياسية سيبرانية تكون مؤثرة، أو بالمعنى الأدق مأسسة تلك الشريحة التي انتخبت ترامب في إطار "سيبراني" في منصة قد تحمل "اسم ترامب" واللعب بهم في أي انتخابات قادمة كـ"لوبي" مؤثر، حتى لو لم يتمكن ترامب من ممارسة السياسة مرة أخرى في حال تم عزله متأخرا. لعل الذي عقّد الأمر أكثر هو ما أقدمت عليه شركة "تويتر" بحجب ومسح حساب ترامب من المنصة وبه 88 مليون متابع.
هنا دخلت الشركة المالكة لتويتر على خط التصنيف السياسي وأصبحت طرفا في صراع بين الجمهوريين والديمقراطيين. هذا التدخل ربما يؤثر على وضع الشركة وعلى موقع تويتر نفسه، الذي تقول الإحصائيات الأخيرة إن جمهوره في نقصان مستمر كما جمهور فيسبوك، خصوصا من قبل الشريحة العمرية من 14 عاما إلى 20 عاما.
هناك من يقول إن مَن يديرون شركة تويتر و"جاك دورسي" مبتكر تويتر نفسه قد يخضعون للمساءلة أمام الكونجرس، كما حدث مع "مارك زوكربيرج" مبتكر فيسبوك بتهمة التلاعب في الحسابات الشخصية للعملاء دون إذن مسبق، فيما عرف بفضيحة "كامبريدج أناليتيكا"، إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي نجح فيها ترامب 2016.
صحيح أنه ليس هناك قانون يمكن الاستناد إليه لمحاكمة أو مساءلة "الشركة المالكة لتويتر أو فيسبوك أو أي من مواقع التواصل الاجتماعي"، لأن الموافقة على الشروط، التي تمثل العقد الذي يحكم بين الاثنين هي جزء من فتح حساب على هذه المنصات، وبالتالي بمجرد أن لك حسابا يعني أنك وافقت على الشروط التي من ضمنها إمكانية قفل حسابك في اللحظة التي ترى فيها الشركة التي تدير الوسيلة ذلك.
ترامب قال: "ذهب تويتر إلى أبعد من حظر حرية التعبير بأنه نسق وانحاز إلى الديمقراطيين واليسار الراديكالي لإسكات أصوات 75 مليون أمريكي"، يقصد الشريحة التي انتخبته.
وأضاف أنه بصدد أن يؤسس منصة لحسابه الشخصي، وهو القادر على ذلك ماليا، وبالتالي قد ينتقل الصراع إلى ملعب آخر وهو صراع المنصات الإلكترونية، وكل ذلك من شأنه تعميق الانقسام وزيادة الشرخ، علينا أن ننتظر الأيام المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة