أيام عصيبة.. تونس تتحدى الجفاف بهذه الحيلة
في عام 2017 كان متوسط نصيب الفرد في تونس من المياه للسكان البالغ عددهم نحو 12 مليوناً 367 متراً مكعباً من المياه المتاحة.
يأتي هذا الشح في نصيب الفرد التونسي من المياه بالمقارنة مع متوسط إقليمي قدره 526 متراً مكعباً ومتوسط عالمي قدره 5700 متر مكعب.
كما يتوقع تراجع نصيب الفرد من الماء إلى ما تحت 250 متر مكعب للفرد خلال عام 2023، بالمقارنة مع متوسط إقليمي قدره 526 متراً مكعباً ومتوسط عالمي قدره 5700 متر مكعب.
وفي أبريل/نيسان الماضي دخلت تونس، حالة الطوارئ المائية الذي يتمثل في نظام مقنن يستمر لعدة أشهر لتوزيع الماء الصالح للشرب، ومنع استعماله أغراض أخرى بسبب أزمة الجفاف التي تضرب البلاد منذ 4 سنوات.
ويعد هذا البلد الشمال أفريقي من أكثر البلدان معاناة من شح الموارد المائية في العالم، كما يؤدي النمو العمراني، وتزايد الطلب، والحاجة إلى دعم جهود خلق فرص الشغل والري في المناطق الريفية إلى زيادة الضغوط على هذه الموارد المائية.
لم يكن شح المياه المشكلة الوحيدة التي تواجهها تونس على مدار سنوات والتي تفاقمت جراء تغير المناخ، بل كانت الأنظمة البيئية الساحلية والبحرية لتونس مُهدَّدة بالتلوث من مياه الصرف الفلاحي والمخلفات البلدية.
وبخطة عمل طموحة أطلقت تونس مشروعات رائدة لمعالجة مياه الصرف ووضعت تنظيف خليج تونس على رأس أولوياتها بعددما أشارت الدراسات والبحوث إلى أنه صار أشد المواقع تلوثاً في البلاد، وشاركت الحكومة بدور كبير في تنفيذ تلك الخطة عبر الديوان الوطني التونسي للتطهير (أوناس) والوزارات المَعنية التي وضعت برنامجاً للتصدي لهذا التحدي.
التصحر ومعالجة المياه
منذ 2009 اتجه عدد من المشاريع الكبرى الجديدة في تونس إلى مزيد من دعم منظومة البيئة والارتقاء بظروف عيش السكان، خاصة مشاريع إعادة تدوير المياه الملوثة ومياه الصرف الصحي لرفع نسبة إعادة الاستعمال لتتجاوز 35 في المئة من مجموع الكميات التي تفرزها محطات المعالجة.
وتخضع المياه المستعملة لمعالجة أولية، تتيح إزالة الفضلات الصلبة وترسيب الأتربة وإزالة الزيوت والمواد الدهنية، تليها المعالجة البيولوجية ويتم خلالها إزالة التلوث العضوي عن طريق التصفية البيولوجية للماء بالعمل المزدوج للنباتات المائية والكائنات الدقيقة.
وتعد المياه المعالجة بهذه الطريقة مطابقة للمقاييس التونسية لصرف المياه المستعملة في الوسط الطبيعي، كما يمكن إعادة استعمالها في الري وإدماجها في الدورة الاقتصادية، تطبيقاً للمنهج الاستراتيجي للمحافظة على الموارد المائية المحدودة باستغلال الموارد غير التقليدية.
ساعدت معالجة مياه الصرف الصحي من أجل إعادة استخدامها على اليابسة في تعزيز قدرات تونس على التكيف مع تزايد شح المياه الذي تشهده البلاد نتيجة لتغير المناخ. ويسهم الاستثمار في نظام جديد مأمون بيئياً للتخلص من مياه الصرف المُعالجة في الحفاظ على الشريط الساحلي الجميل لتونس المُطل على البحر المتوسط، ويعود بالنفع على المجتمعات المحلية التي تعيش وتعمل وتقضي أوقات فراغها على امتداده.
ومن أبرز المشروعات التونسية في هذا السياق مشروع فريد وضخم لتحويل كميات من المياه المعالجة من الشمال الى مناطق في الوسط، حيث تم تخصيص مساحات كبرى لزراعة نبتة جتروفا التي تمثل مصدات لوقف زحف الرمال ومقاومة التصحر، مع توفير حبيبات صالحة لانتاج وقود بيولوجي نظيف، الى جانب توفير مساحات خضراء ومناطق مزروعة وتفادي انبعاثات غازية ملوّثة من جراء استعمال الوقود التقليدي، بتمويل وطني ودعم من الجهات الدولية والمنح.
شاطئ "رواد" ومحطة جوقار
للمرة الأولى منذ عدة سنوات، في عام 2020، افتتحت السلطات الصحية في تونس شاطئ "رواد" الذي يقع إلى الشمال من مدينة تونس لممارسة السباحة، في خطوة تدعم الاقتصاد المحلي، حيث عبَّر صائدو الأسماك عن استحسانهم للتغيرات التي شهدوها في البيئة البحرية.
وأظهرت مجموعة من العينات من مياه البحر أُخِذت في منطقة شاطئ "رواد" في عام 2020 أن 96% منها امتثل لمستويات البكتيريا التي تُعتبر مأمونة للصحة العامة، وهو وما يبدو وكأنه معجزة هو في الواقع ثمرة العمل الدؤوب للمهندسين والعلماء لتنقية المياه، وأن 97% منها مأمونة بالنسبة لمستوى المُنظِّفات.
وقد نتجت هذه التحسينات عن نقل مياه الصرف المُعالَجة عبر أنابيب تحت الأرض إلى مصب تحت سطح البحر، وهو المصطلح الفني المستخدم للتعبير عن خط أنابيب تحت مياه البحر يمتد لمسافة 6 كيلومترات قبالة الساحل قبل أن يتخلص مما يحمله من مخلفات سائلة على عمق 20 متراً.
وفي هذا العُمْق، على مسافة أبعد في خليج تونس، تتبدَّد مياه الصرف الصحي البشري المعالجة وغيرها من المخلفات السائلة، فتخفِّف من التلوث الذي يصاحب الأنشطة اليومية للحياة المعاصرة وأساليب الفلاحة.
نموذج آخر ناجح في مجال المعالجة وإعادة تدوير المياه في تونس هو محطة جوقار التي تقع شمال شرق البلاد في قرية جوقار بولاية زغوان الذي بدأ العمل منذ 2004 وجاء ثمرة إنجاز وطني بتعاون وزارة البحث العلمي ومركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة والديوان الوطني للتطهير، واستهدف المشروع التطهير الريفي وتحسين إطار العيش في القرى التونسية.
اعتمد إنجاز المحطة النموذجية لمعالجة المياه على تقنيات محلية وبسيطة وغير مكلفة لمعالجة المياه المستعملة في المناطق الريفية، مع الوضع في الاعتبار خصوصية المناخ والتربة والنباتات الموجودة في المنطقة والتي يمكن استعمالها كأداة طبيعية لتطهير المياه، عوضاً عن التجهيزات الكهروميكانيكية المستعملة تقليدياً في محطات المعالجة.
وتعتمد هذه المحطة تقنية التطهير بواسطة النباتات المائية، التي تتميز بسهولة الاستغلال وانخفاض تكاليف التشغيل والصيانة ولا تستهلك طاقة في كل مراحل التصفية، وهي لا تتطلب عمالاً كثيرين أو مختصين، إضافة الى كونها محطة خضراء تتلاءم مع طبيعة المشهد الريفي، كما تتميز هذه التقنية بانتاج كميات قليلة من الحمأة، مما يتيح تلافي مشكلة معالجتها.
وتتجه البلاد حاليا لانشاء محطات تطهير ريفي مماثلة متأقلمة مع مختلف المناخات التونسية في الشمال الغربي والوسط والجنوب، والتعميم التدريجي لهذه المحطات على مختلف الجهات وفق خطة الديوان الوطني للتطهير.
مياه آمنة الاستخدام
حسب الصفحة الرسمية لمركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة (CITET Tunisie) تعتبر تقنية معالجة مياه الصرف الصحي باستعمال النبتات المائية الحل الأنجع للمناطق الريفية قليلة العدد وذلك بالنظر إلى فاعليتها ومساهمتها في المحافظة على الوسط الطبيعي زيادة على تكلفة إنجازها وتشغيلها الأقل ثمنا.
ويأتي مشروع تركيز شبكة تجميع المياه الملوثة و محطة تطهير المياه باستعمال النباتات المائية بقرية الشبيكة من ولاية توزر في إطار حرص المركز على تعميم هذه التقنية في التكتلات السكنية قليلة العدد والتأكيد على نجاعتها بإختلاف التضاريس والمناخ بتونس.
ومن أجل إقناع الجمهور العام بأن مياه الصرف التي أعيد تدويرها مأمونة لزراعة النباتات، تُرْوى قطع أراض مملوكة لثلاثة من المزارعين في "برج الطويل" بمياه صرف مُعالجة، وتم إنشاء مزيد من قطع الأرض التجريبية بالقرب من محطة معالجة المياه في سيدي عمور على الساحل إلى الشمالي الغربي من "برج الطويل".
كما توجد في منطقة "سيدى عمور" أنظمة لترشيح المياه، وخزانات للمياه، ومحطة للرفع، وشبكة للري، ومختبر، ومركز للاختبار والبيان العملي.
ويساعد مشروع "سيدي عمور" على تحسين التنسيق بين مختلف الجهات صاحبة المصلحة، كما أن مختبره المختص بضبط الجودة مفتوح لطلاب الدراسات الفلاحية.
ابتكار تونسي
في عام 2021 نجحت الباحثة التونسية لطيفة مرجان الحاصلة على الدكتوراة من جامعة برلين التقنية- من تطوير مواد بناء صديقة للبيئة وابتكار تقنية جديدة لتنقية المياه بكفاءة عالية باستخدام مواد طبيعية من الطين والألياف النباتية.
وانتهجت الباحثة التونسية منهج الاعتماد على المواد الطبيعية المتوفرة لتصنيع مواد صديقة للبيئة تسهم في الحد من التلوث البيئي الذي تسببه المواد المستخدمة وتحقيق القيمة المضافة للموارد الطبيعة كأحد عناصر التصدي والمواجهة للأضرار البيئية.
تركزت أبحاث مورجان على تطوير مواد جديدة تستخدم في البناء باستخدام الطين والألياف النباتية الموجودة في بقايا النجارة والأشجار والنباتات البحرية، وبرزت أيضا في ابتكار تقنية لتنقية المياه المستعملة.
وفي مختبرات الجامعة الألمانية، توصلت الباحثة التونسية بعد إجراء العديد من التجارب إلى طريقة جديدة لتنقية المياه في ظرف وجيز ومن دون الحاجة إلى مواد مضرة للبيئة.
وأجرت مرجان اختبارات لمدة عام كامل على تقنية تعتمد على استخدام ألياف النبتة البحرية المعروفة باسم البوسيدون المنتشرة في البحر الأبيض المتوسط في قسم معالجة المياه بالجامعة الألمانية، وكانت النتائج مبهرة.
كما طورت طريقة أخرى لمعالجة المياه الملوثة تعتمد على ألواح خزفية مصنعة من الطين وألياف بوسيدون وتكسوها طبقة رقيقة من ثنائي أكسيد التيتانيوم.
وأظهرت الاختبارات أن سطح المادة المبتكرة بإمكانه تنقية المياه الملامسة له كليا في ظرف 3 ساعات فقط وكسر الجزيئات الدهنية الموجودة بها بمجرد التعرض لأشعة الشمس.
وبحسب الباحثة، فإن هذه المادة المطورة "يمكن أن تسهم في معالجة المياه بمحطات التطهير التي تستعمل حاليا تقنيات مكلفة، وكذلك في تنقية المياه في الأحواض والمسابح بشكل فعال جدا".
كما يمكن استخدامها في معالجة إحدى المشاكل البيئية الكبيرة في البلدان المعروفة بإنتاج زيت الزيتون، إذ يمكنها تنقية المياه الناتجة عن عصر الزيتون المعروفة بـ"مرجان الزيتون" وإزالة جميع المواد الدهنية منها.
وفي تصريحات لصحفية "الشروق" التونسية توقعت مرجان أن تسهم المواد الجديدة في إحداث ثورة في مجال البناء ومعالجة المياه الملوثة بطريقة إيكولوجية صديقة للبيئة.