"تسريب الغنوشي".. "مناورة" لإرجاء سقوطه الحتمي
التسريب جاء خلال اجتماع مجلس شورى حركة النهضة، وهاجم فيه الغنوشي الرئيس قيس سعيد على خلفية تصريحات بشأن حكومة الوفاق الليبية.
يبدو التسجيل الصوتي المسرب لزعيم الإخوان بتونس راشد الغنوشي، فضيحة مدوية تخرج الأزمة المستعرة بينه وبين الرئيس قيس سعيد إلى العلن، لغير المتابعين بدقة لخفايا المشهد السياسي في تونس.
لكن المتمعن في خلفيات وسياق وتوقيت المقتطف المسرب خلال مداخلته بأعمال مجلس شورى حركة النهضة الإخوانية، سينتهي بديهة إلى إدراك أن زعيم الإخوان الذي تطوقه التهديدات الحزبية والسياسية من كل جانب، هو المستفيد الأكبر من هذا التسريب، وكأنه "مناورة" لإرجاء سقوطه الحتمي.
وفي تسريب أثناء اجتماع مجلس شورى حركة النهضة التي يتزعمها، هاجم الغنوشي الرئيس قيس سعيد على خلفية تصريحات للأخير قبل أيام، اعتبر فيها أن شرعية ما يسمى بحكومة الوفاق الليبية "مؤقتة".
ووفق التسريب الذي بثته وسائل إعلام محلية وعربية، استخدم الغنوشي عبارة مهينة ضد سعيد، تستبطن تقليلا من شأن الرئيس ومن قدرته على استيعاب الأزمة الليبية.
- مصادر تكشف لـ"العين الإخبارية" مؤامرة الغنوشي ضد تونس بصبغة قطرية
- تصريحات رئيس تونس حول ليبيا.. زيت يشعل نار الخلافات مع الغنوشي
كما كشف الغنوشي، بالتسجيل نفسه، عن اتصال قال إنه أجراه مع سعيد الأسبوع الماضي، في محاولة لـ"إصلاح" العلاقة بينه وبين حكومة الوفاق الليبية عقب تصريحاته الأخيرة خلال زيارته إلى فرنسا.
النهضة بدون الغنوشي
ويشكل انعقاد المؤتمر المقبل لـ"النهضة" الموعد الذي من المنتظر أن تعلن فيه رسميا انتهاء الآجال القانونية لترؤسه الحركة، بموجب قانونها الداخلي، في معطى تم حسمه نظريا، وسط انقسامات وخلافات مدوية حوله تجاه الحركة الإخوانية.
محمد أمين بن صالح، أستاذ الجغرافيا السياسية بجامعة ليون الفرنسية، رأى أن القراءة السطحية للتسريب قد لا تمكن من فهم حقيقته أو الغاية منه، لكن التمعن فيه يكشف أنه مدروس بعناية، أي أن المقتطف لم يكن اعتباطيا وإنما ركز على الجزء المستهدف لتحقيق الأهداف المرسومة.
وفي حديث لـ"العين الإخبارية"، قال بن صالح إن "التسريب جزء من خطة اتصالية للشق المؤيد لبقاء الغنوشي على رأس الحركة حتى مع انتهاء مهلته".
وأكد أن "التسريب لا يشكل أبدا اختراقا لحركة تخضع لمنطق الطاعة العمياء والانسياق وراء القيادة، وإنما هو مجرد حركة اتصالية تأتي في صميم الصراع الداخلي بين الشق الموالي للغنوشي والشق المناهض له".
وفي هذه الحالة، يتابع الباحث، فإن ما يهم الغنوشي حاليا بالدرجة الأولى هو إرجاء موعد المؤتمر المقبل للحركة، عبر تعويم هذا الموضوع والتزام سياسة الغموض فيه، ما يمنحه هامشا إضافيا للمناورة وإن اقتضى الأمر رفع منسوب التوترات الداخلية بالحركة، وتأجيج الانقسامات بما يؤجل آليا موعد المؤتمر.
وكان من المفترض أن تعقد الحركة مؤتمرها الحادي عشر بعد شهر رمضان الماضي مباشرة، لكن انتشار فيروس كورونا بعثر أجندة الحركة الإخوانية، ومنح رئيسها مهلة إضافية استثمرها لفترة معينة، لكن ومع تراجع الوباء بالبلاد، طفا موضوع المؤتمر من جديد إلى السطح، فكان لابد من عقبة جديدة.
إعادة خلط الأوراق
بن صالح شدد على أنه "لا أحد سيستفيد من التسريب بقدر الغنوشي، فالتسجيل فجر جدلا واسعا أربك الوضع الداخلي للحركة، وجعل الكثيرين يتحدثون عن اختراق لقلعة الحركة، وسط تبادل للاتهامات بين شقيها، وهذا بالضبط الهدف المنشود".
وتطرق الخبير إلى غياب الغنوشي عن اليوم الثاني لأعمال الدورة الأخيرة لشورى الحركة الإخوانية، معتبرا أنه كان «متعمدا» لتلافي الخوض بموضوع عقد المؤتمر القادم.
أما خلط الأوراق، فيرى بن صالح أنه سيغرق الحركة في ضبابية تجعل من الصعب معها وضع أجندة للأحداث المقبلة، والأهم أنه يمنح الشق الموالي للغنوشي الوقت الكافي للتعبئة والاستنفار، خصوصا أن الحظوة وجميع المصالح والامتيازات التي يحصل عليها المقربون من زعيم الحركة مردها ولاؤهم التام له، ولذلك فمن المؤكد أنهم لن يسمحوا أبدا بعقد مؤتمر سيسلبهم هذه الامتيازات.
وبالدورة الأخيرة لمجلس شورى النهضة، حصل الجناح المعارض للغنوشي على 55 صوتا مقابل 45 للشق المؤيد له، وهذا ما يجعل زعيم الإخوان يتأكد من أن ترك الأمور لمسارها العادي سيقصيه من على رأس الحركة التي لم تعرف رئيسا سواه منذ تأسيسها قبل عقود طويلة، فكان لابد من بعثرة الأوراق وخلق مسار مواز.
معارضو الغنوشي.. الهدف الثاني
العقبة الحقيقية التي يواجهها الغنوشي حاليا لا تتعلق فقط بحربه الباردة مع الرئيس قيس سعيد، أو بجملة الاتهامات التي تطوقه في علاقة بالملف الليبي، وإنما أيضا بالجناح المعارض لبقائه على رأس النهضة.
فهذا الشق الذي يحظى بوزن متزايد داخل الحركة، نجح في فرض بند المؤتمر الحادي عشر بأشغال دورة مجلس الشورى الأخيرة، وهذا يعد في حد ذاته انتصارا ساحقا رغم عدم تحديد موعد دقيق للمؤتمر.
ومن هنا، يتأكد أن الغنوشي لم يغفر لذلك الجناح "انتصاراته" تلك، ولذلك، يريد من خلال التسريب إظهار ذلك الشق على أنه "خائن" للحركة، ويلجأ لأساليب
"قذرة"، وفق وصف بن صالح، لإخراج أسرار الحركة للخصوم ومنحهم فرصة الانقضاض عليها.
وبالنظر إلى طبيعة قواعد الحركة، فإن التسريب يرمي إلى التحريض على الشق المعارض للغنوشي، بهدف خلق ضغط يسمح بالمناورة وربح الوقت، وربما ترهيب البعض أو شراء ذمته بالأموال والمناصب من أجل إضعاف الجناح وقلب المعادلة برمتها.
وإجمالا، خلص بن صالح إلى أن "أي تسريب ـ مهما كان مصدره أو مضمونه أو محوره ـ له طرف مستهدف وآخر مستفيد، وتسريب الغنوشي يستهدف الكثيرين لكن المستفيد منه واحد".