الواضح حتى الآن وعلى ضوء النتائج هو أن التحالفات الحزبية الراهنة هي ظرفية ومؤقتة وستشهد تحولات كثيرة.
نصف ساعة من الزمن بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ودولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية اليميني، صباح 18 أبريل/نيسان المنصرم كانت كافيةً لرسم مسار جديد في الحياة السياسية التركية بهدف تسريع تطبيق النظام الرئاسي ومحاولة إخراج البلاد من أكثر من أزمة داخلية وخارجية .
" تحالف الجمهور " الذي يمثله أردوغان وبهشلي والذي أعلن أن القضية تحولت إلى مسألة "أمن قومي"، ولا بد من الرد العاجل على مخطط محاصرة تركيا وإضعافها، ولا بد من انتخابات مبكرة تحسم الأمور، نجح أولاً في مباغتة المعارضة المبعثرة المشتتة رغم أنها حاولت التحرك سريعاً لتنظيم صفوفها والإعلان عن قبول التحدي، ثم نجح في الفوز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أُجريت في 24 يونيو/حزيران 2018، وإذا ما تقدمت الأمور كما هو متوقع فستعلن الهيئة العليا للانتخابات التركية النتائج الرسمية في 5 يوليو / تموز المقبل ليلتئم المجلس البرلماني التركي الجديد للمرة الأولى؛ وليؤدي الرئيس التركي اليمين الدستورية في التاسع من الشهر نفسه، وبهذا تنطلق المرحلة الثانية من عملية تغيير شكل النظام في تركيا من البرلماني إلى الرئاسي .
أردوغان وصل إلى ما يريد لكن حزبه سيكون في البرلمان تحت تأثير ما يريده ويقوله شريكه الصغير في الائتلاف حزب الحركة القومية، فهل يمنحه هذه الفرصة أم هو سيبحث عن شراكة بديلة تجنبه محاصرة بهشلي له بالمطالب والتوصيات والنصائح؟
يبحث أردوغان عن تحصين موقعه الرئاسي أكثر فأكثر في مواجهة المعارضة، ويريد مزيداً من الدعم الشعبي، عند اتخاذ قراراته في التعامل مع ملفات إقليمية حساسة، بينها الملف السوري والعراقي والقبرصي والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية المتراجعة منذ أشهر طويلة، لكن الحقيقة هي أن تركيا واعتباراً من صباح يوم الإثنين المنصرم دخلت في عهد "الجمهورية الثانية" بنظام سياسي ودستوري جديد، وأنهت حقبة النظام البرلماني الذي لعب مصطفى كمال أتاتورك الدور الريادي في تأسيسه عام 1923.
خيبات الأمل في صفوف المعارضة كثيرة: فتحالف الجمهور تمكن أولاً من تكريس عملية تغيير شكل النظام رئاسياً بصلاحيات واسعة لرأس الدولة، وثانياً احتمال إدخال تعديلات جذرية على مسار خارطة التحالفات التركية الإقليمية والدولية التي ستتغير عما هو عليه الحال اليوم .
ثم هناك ثانياً توقعات شركات استطلاع الرأي التركية التي حطمت آمال الكثيرين بعدما أخطأت مرة أخرى في تقديراتها وتقديم سيناريو احتمال حصول المعارضة على غالبية الأصوات في البرلمان؛ وصعوبة فوز أردوغان في الجولة الأولى للمعركة الرئاسية واحتمال خسارته في الجولة الثانية أمام أقوى منافسيه اليساري محرم إينجا.
والمعارضة خسرت كذلك قبل الدخول في الحملات الانتخابية فرصة تقديم نفسها أمام الناخب على أنها موحدة متضامنة بعدما أصرت ميرال أكشنير زعيمة حزب "ايي بارتي" على رفض دعم ترشح الرئيس التركي السابق عبد الله جول للانتخابات الرئاسية باسم "تحالف الأمة"، ولأنها أيضاً تمسكت بإبعاد "حزب الشعوب الديمقراطية" المحسوب على الأكراد عن التحالف المعارض.
أما أهم مفاجآت النتائج الكثيرة فهناك أولاً نجاح حزب الحركة القومية في الحصول على نسبة 11 بالمئة من مجموع الأصوات في الانتخابات البرلمانية مخيباً جميع التوقعات بتراجع نسبة أصواته إلى 7 بالمئة، وتمكن "حزب ايي" اليميني المنشق عن حزب دولت بهشلي من تجاوز حاجز العشرة بالمئة الانتخابي. أما المفاجأة الثالثة فهي نجاح اليمين القومي التركي في حصد 22 بالمئة من الأصوات مع الحزبين وهو ما قد يكون سبباً لإقلاق بقية الأحزاب وفي مقدمتها العدالة والتنمية في حال قررا المصالحة والاندماج كحزب واحد يتحول إلى الكتلة الثالثة في البرلمان، أو بدأت عمليات الانشقاق مرة أخرى في صفوف قيادات وكوادر حزب "ايي" والعودة إلى الحزب الأم.
المفاجأة الرابعة أتى بها حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بحصوله على 12 بالمئة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية مما سهل له دخول البرلمان ليكون جزءاً من اللعبة السياسية. أما المفاجأة الخامسة فكانت مع حصول مرشح حزب الشعب الجمهوري محرم إينجا على 30 بالمائة من مجموع الأصوات في الانتخابات الرئاسية؛ متقدماً بفارق كبير على أصوات حزبه مما يؤكد احتمال وقوع المواجهة الحزبية بينه وبين رئيس الحزب الحالي كمال كيليشدار أوغلو على موقع القيادة في "الشعب الجمهوري" وخلال فترة زمنية قصيرة جداً.
الواضح حتى الآن وعلى ضوء النتائج هو: أن التحالفات الحزبية الراهنة هي ظرفية ومؤقتة وستشهد تحولات كثيرة، وأن أردوغان وصل إلى ما يريد لكن حزبه سيكون في البرلمان تحت تأثير ما يريده ويقوله شريكه الصغير في الائتلاف حزب الحركة القومية، فهل يمنحه هذه الفرصة أم هو سيبحث عن شراكة بديلة تجنبه محاصرة بهشلي له بالمطالب والتوصيات والنصائح؛ وكما حدث قبل أيام عندما رفض بهشلي رغبة العدالة بإلغاء حالة الطوارئ وتمسك بإعلان العفو القسمي عن آلاف السجناء.
وأن الأهم هو طرح خيارات وسبل إيجاد الحلول للكثير من الأزمات الداخلية والخارجية، والمراجعة الشاملة للمواقف والقرارات في علاقات تركيا مع الكثير من دول المنطقة، وأن أصوات حزب العدالة والتنمية تراجعت في هذه الانتخابات بالمقارنة مع نسبه في الانتخابات الأخيرة التي جرت عام 2015، فهو اليوم يحصل على حوالي 292 مقعداً في برلمان يجمع 600 مقعد فيما كان قد حصل في آخر انتخابات برلمانية على 317 مقعداً من أصل 550 مقعداً، وأن المسألة ليست كما يقال حول ابتعاد أصوات اليمينيين عن الحزب بل هناك فئة المغبونين والغاضبين والقلقين التي ابتعدت عنه متوجهة إلى أحزاب أخرى، وأن العدالة والتنمية سيكون مديناً في حماية أصواته مرة أخرى إلى الصوت الكردي الذي دعمه في مناطق جنوب شرق تركيا، فهل سيأخذ ذلك بعين الاعتبار ويتجاهل مطالب حزب الحركة القومية اليميني باعتماد سياسات أكثر تشدداً في الموضوع الكردي، أم أنه لن يعطيه ما يريد فيغضبه ويدفعه للابتعاد عن التحالف القائم بينهما؟
قال أردوغان بعد ساعات على إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية "لقد وصلتنا رسائل الصناديق وسنأخذ بها وثقوا أننا سنبدأ الحقبة الدستورية الجديدة في البلاد وقد استوعبنا كل هذه الرسائل وتعاملنا معها كما ينبغي" . وأقر منافسه محرم إينجا بخسارته في الانتخابات، مؤكداً قبوله بالنتائج غير الرسمية التي أعلنت عنها اللجنة العليا للانتخابات قائلاً لأردوغان "فلتكن رئيساً لنا جميعاً واحتضن الجميع، كنت سأفعل ذلك لو تم انتخابي" . لكن هناك حقيقة أخرى هي أن مرشح تحالف الجمهور إينجا الذي لم يعد نائباً في البرلمان لن يذهب إلى كرسي التقاعد الهزاز بعد إعلان النتائج رسمياً وأن عامل إينجا الصاعد ليس فقط في صفوف حزب الشعب الجمهوري المعارض؛ بل على مستوى الشارع السياسي التركي بسبب شفافيته وديناميته وأسلوبه في طرح القضايا، قد يترك المواطن التركي أمام مقولة نعم مرة أخرى للعدالة والتنمية لكن هناك حتماً ما سيتغير عاجلاً أم آجلا إذا لم يغير حزب العدالة من أسلوبه وطريقة تعامله مع ملفات وأزمات داخلية وخارجية كثيرة.
قد تكون نتائج الانتخابات حملت للعدالة والتنمية وحليفه الحركة القومية على المدى القصير الفوز الذي يبحثان عنه لكن النتيجة شيء والملفات المتشابكة المتداخلة التي تنتظر الحلول العاجلة في الداخل والخارج شيء آخر . لا أحد يضمن استمرار "تحالف الجمهور " عندما يتزايد عدد طلبات ونصائح حزب الحركة القومية للعدالة والتنمية إلى جانب حقيقة أن ساعة سريان مفعول النظام الرئاسي في التطبيق والممارسة ستفرض على الداخل التركي وقياداته وأحزابه التواجد داخل ساحة اختبار كبرى تحمل معها الكثير من المتغيرات والمتطلبات السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية؛ التي سيكون لها تأثيراتها على قرار القيادات السياسية التركية في التعامل مع العديد من الملفات المحلية والإقليمية. في جميع الأحوال تركيا ما بعد فتح الصناديق وإعلان النتائج ستكون غير تركيا ما قبل الذهاب إلى الصناديق وإعلان النتائج .
تقول الأنباء أن نعش إحدى السيدات سقط فوق رأس ابنها أثناء مشاركته في مراسم الجنازة التقليدية في منطقة توراجا الشمالية الشهيرة بطقوس الدفن الغريبة في أندونيسيا. من الممكن دائماً أن يقع ما هو خارج الحسبان في أية لحظة .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة