قرار قيادة المرأة السعودية للسيارات كان بالأساس قراراً تنموياً استراتيجياً سواء فيما يتعلق بكونه جزءاً من منظومة تطوير شاملة
التاريخ لا تصنعه السياسة والحروب فقط، بل تصنعه أيضاً التوجهات الاستراتيجية والتطورات النوعية والسياسات الفارقة في حياة الأمم والشعوب، على المستويات الثقافية والاجتماعية. هكذا يمكن فهم تاريخ الرابع والعشرين من يونيو عام 2018، حيث سمحت السلطات في المملكة العربية السعودية للمرأة بقيادة السيارة؛ تنفيذاً لقرار خادم الحرمين الشريفين الصادر في سبتمبر الماضي بشأن السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارات.
لا شك أن تطور مسيرة المرأة السعودية يمثل إضافة نوعية كبيرة للمرأة الخليجية ويسهم في بناء صورة نمطية أكثر إيجابية عن المرأة العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص
هذا التاريخ يعد، بكل المقاييس، نقطة تحول كبيرة في صورة المرأة الخليجية والعربية بشكل عام والسعودية بشكل خاص، ولست مع الكثير مما ينشر في وسائل الإعلام من أوصاف حول "انتزاع" المرأة السعودية لحق قيادة السيارة وغير ذلك من أوصاف ومسميات، فالكل يعلم تماماً أن هذه الخطوة تمت بتوجيهات العاهل السعودي، وبمبادرة من الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، وجاءت في إطار تحولات شاملة وحزمة إصلاحات متكاملة ترسم مستقبل المملكة في القرن الحادي والعشرين، وتعيد تأطير وصياغة الكثير من المفاهيم والسياسات بما يتماشى مع تطلعات وطموحات ولي العهد السعودي، وهي طموحات وتطلعات تواكب نظيراتها لدى شباب المملكة الشريحة الأكبر من سكانها، ولم تكن مطلقاً استجابة لضغوط لا خارجية ولا داخلية، وإنما هي خطة استراتيجية واعدة ترتكز على مقومات تنموية في مختلف المجالات الثقافية والاقتصادية والفكرية والاستثمارية والرياضية وغيرها.
هناك اهتمام دولي كبير يفوق الاهتمام العربي، بما يحدث في المملكة من تحولات ثقافية، فالغرب يدرك تماماً معنى انفتاح المملكة بكل مكانتها وثقلها وتأثيرها الإقليمي، ومردود ذلك وصداه في جوانب مجتمعية وحياتية وتنموية أخرى؛ وتأثير كل ذلك في بناء أجيال تمتلك مناعة حضارية وثقافية في مواجهة إغراءات التشدد والتطرف، ودعوات الانغلاق التي تروجها عناصر وتنظيمات تتبنى فهماً منغلقاً للدين الإسلامي، وتسهم في تشويه صورة هذا الدين الحنيف عبر اختطافه وتحويله إلى مادة للمتاجرة السياسية، وتحقيق الأهداف الذاتية لعناصر التطرف والدول والقوى الداعمة لها إقليمياً ودولياً.
قرار قيادة المرأة السعودية للسيارات كان بالأساس قراراً تنموياً استراتيجياً، سواء فيما يتعلق بكونه جزءاً من منظومة تطوير شاملة في مختلف قطاعات التنمية، أم في إطار كونه يأتي ضمن إجراءات إصلاحية هيكلية في سوق العمل السعودي، حيث تشير الأرقام إلى وجود أكثر من مليون سائق أجنبي يعملون بمهنة سائق خاص، بما يحرر المرأة السعودية ويحولها إلى طاقة محركة منتجة في مجتمع يسعى للبناء والعمل بشكل متسارع؛ كي يعوض ما فاته طيلة السنوات والعقود الماضيةـ وبالتالي فإن توجهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في هذا الشأن هي توجهات وطنية بامتياز، فلا شك أن أي خطة استراتيجية فاعلة للتنمية تعتمد بالدرجة الأولى على الاستفادة من موارد الدول والمجتمعات كافة، البشرية منها والمادية، وبالتالي فإن بديهيات التخطيط وأبجدياته كانت تقتضي الاعتماد الكامل على إشراك نصف المجتمع السعودي بكامل طاقته في عملية التنمية وهذا ما حدث بالفعل.
لذا، فإن الفترة المقبلة ستشهد انطلاقة تنموية هائلة للمملكة، ليس فقط من خلال تنفيذ الخطة الاستراتيجية الطموحة "رؤية المملكة العربية السعودية 2030"، ولكن أيضاً من خلال استفادة البلاد من طاقات نصف سكان المملكة من السعوديات، حيث يشير مسح الخصائص السكانية لعام 2017 إلى أن تعداد الإناث السعوديات في المملكة قد بلغ أكثر من عشرة ملايين بفارق يقل بنحو ثلاثمائة وثمانين ألف نسمة عن الرجال السعوديين، ما يعني أننا أمام طاقة بشرية هائلة سيستفيد منها الاقتصاد السعودي بشكل كامل، باعتبار أن هذه الخطوات التي تجري لمصلحة تمكين المرأة السعودية ستعزز تواجدها في أسواق العمل، وفي مجمل الأنشطة الاقتصادية والحياة العامة.
المرأة في دول مجلس التعاون حققت إنجازات كبيرة، وارتقت مسيرة تمكين المرأة في دول مثل دولة الامارات إلى مستويات تنافس الدول المتقدمة في هذا الشأن، حيث وصلت المرأة إلى منصب رئيسة برلمان ووزيرة، وبات الاعتماد عليها كبيراً في مختلف الوظائف الحكومية والرسمية. ولا شك أن تطور مسيرة المرأة السعودية يمثل إضافة نوعية كبيرة للمرأة الخليجية؛ ويسهم في بناء صورة نمطية أكثر إيجابية عن المرأة العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة