السياسة التركية لم تعد تعرف "صفر" مشاكل بل "كل" مشاكل من خلال الدور التدخلي في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط وجنوب الساحل والصحراء
ما زال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتبنى سياسات تصعيدية في الإقليم بأكمله، وهو ما يتضح بصورة مباشرة في تطلعاته المستمرة بحثا عن دور إقليمي متزايد يمكن من خلاله التغطية على ما يجري في الداخل من ممارسات قمعية وشمولية بصورة لافتة ليس فقط تجاه المنتقدين لسياسته فحسب، بل مع مختلف شرائح المجتمع التركي بأكمله.
وقد ظهر ذلك مؤخرا في تصعيده للخطاب الإعلامي والسياسي تجاه أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان، وكلاهما وغيرهم قيادات تركية كبيرة خرجت من رحم حزب العدالة والتنمية، واتجهت لممارسة المعارضة من داخل بنية النظام التركي، وبالتالى لا يمكن اتهامها بأنها تدعو لهز الاستقرار في الداخل أو العمل على ضرب التجربة التركية الناجحة التي قام الرئيس التركي - وفقا لمنظوره الذاتي - بتشييدها طوال سنوات حكمه، وهي التي باتت في محل تشكك كبير لعدة اعتبارات الأول أن السياسة التركية لم تعد تعرف "صفر" مشاكل بل "كل" مشاكل من خلال الدور التدخلي في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط وجنوب الساحل والصحراء، وفي الجنوب الافريقي.
وهو دور يحتاج إلى مقومات اقتصادية واستراتيجية لن تستطيع السياسة التركية الوفاء بها فعليا بعيدا عن امتلاك تركيا ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، ومصنفة ضمن مجموعة اقتصاديات دول العشرين وغيرها من المعطيات والمؤشرات المتعارف عليها، إذ أن السياسة التركية باتت تبحث عن مصالح استراتيجية تكتيكية واستراتيجية، وهو ما برز بوضوح في اتفاقها مع السراج في ليبيا، وإرسالها لعناصرها المصنفة إرهابيا لمحاولة تغيير قواعد اللعبة في المعادلة الليبية لتكتسب نقطة ارتكاز حقيقي، وانتشار كامل في المنطقة المغاربية، ومنها إلى جنوب الساحل والصحراء، وكذلك في منطقة شرق المتوسط حيث ستتداخل الحسابات بعد انضواء دول الإقليم في منتدى غاز المتوسط.
الثانى تتحرك السياسة التركية تجاه الملفات العربية، وعلى رأسها الملف الفلسطيني وفق حسابات محددة، فتدعي رفض الحصار الاسرائيلي على قطاع غزة، ورفض إجراءات الضم التي تعتزم الحكومة الإسرائيلية الجديدة القيام بها، وفي نفس التوقيت تتواصل علاقاتها المعلنة مع اسرائيل، وهو ما برز في استئناف خطوط النقل، وتكثيف الاتصالات الأمنية والاستخباراتية بين البلدين، وهو ما يكشف عن كذب الرئيس التركي أردوغان ومسعاه أن يظهر في إطار المدافع عن الحقوق الفلسطينية، وأنه حامي المسجد الأقصى والقدس الشريف، ويؤكد هذا الأمر حجم التبادل التجاري والعسكري بين الجانبين .
الثالث استمرار السياسة التركية المراوغة في انتقاد الدول العربية الكبيرة، كالسعودية ومصر والامارات، وتبني حملات إعلامية ممنهجة بالفعل تستند على دعم قطري ووسائل إعلام معادية، تشارك فيها منظمات دولية ومراكز وبيوت خبرة لها ارتباطات بقطر، وتعمل من خلالها شبكات إعلامية وسياسية لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وعبر التنظيم الدولي للجماعة بهدف التشويش على ما تقوم به السياسة التركية في الإقليم بأكمله، وفي ليبيا في هذا التوقيت بحثا عن دور يمكن أن تفاوض من خلاله في ملفات الغاز في المتوسط، والتمدد البحري غير المشروع ذاته في ليبيا، وذلك في ظل محاولة أردوغان تكرار سيناريو ما جرى في سوريا.
وبالتالي فإن التحرك التركي يتبنى خيار التصعيد من أجل اكتساب أرضية للتعامل، وهو ما اتضح في تفاهمات استراتيجية مع روسيا بصورة معلنة، ومع الإدارة الأمريكية بصورة غير معلنة، والتي قد تدفع بوجود تواطؤ من بعض الأطراف الدولية مع ما تقوم به تركيا في الوقت الراهن، بهدف التواجد في كل الملفات العربية المفتوحة والعمل على اكتساب أوراق ضغط واستثمارها بصورة كبيرة، كما يترجم المواقف التركية تجاه الدول العربية المكافحة للإرهاب والمقاطعة لقطر، وكيف توافقت السياسات التركية القطرية في ملفات عدة.
تتحرك السياسة التركية تجاه الملفات العربية، وعلى رأسها الملف الفلسطيني وفق حسابات محددة.
وفي المجمل نحن أمام سيناريوهين للتحركات التركية المتوقعة الأول : وهو الأرجح استمرار سياسة العداء التركي، وتصعيد دوره إقليميا بهدف التأثير المباشر في القضايا العربية التي ما تزال مفتوحة على سيناريوهات متعددة، ومنها الملف الليبي والسوري واليمني، والعمل على إيجاد دور للسياسة التركية التي ستسعى لطرح فكرة المقايضة السياسية مع الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، وتحقيق أكبر عائد من المكاسب السياسية والاستراتيجية، وفي هذا السيناريو ستعمل على التصعيد في مواجهة بعض الدول العربية، مع التنسيق مع الجانب القطري، وتوظيف إمكانياته في الحضور في الجزائر وليبيا وموريتانيا، وفي القرن الافريقي مع توجيه دوائر الاتصال لجماعة الإخوان المسلمين في هذا الإطار.
وكذلك في منطقة شرق المتوسط حيث الحسابات المعقدة والسعي للعب دور مؤثر، اتضح من اتفاقها على خط الغاز المخطط له الوصول لأوروبا وبالتنسيق مع إسرائيل على أرضية المصالح الاستراتيجية الكبرى. الثاني : التهدئة التكتيكية في بعض الملفات، وتسخين بعض الجبهات الأخرى في المقابل، بمعنى التركيز على الملف الليبي في المنطقة المغاربية والتهدئة في الجنوب الافريقي، حيث المصالح المتغيرة في السودان واثيوبيا والصومال، على أن يتم التفاوض مع روسيا والولايات المتحدة دوليا وإسرائيل وإيران إقليميا، وفقا لمعادلة أوسع وفي إطار مقايضات محددة .
في كل الأحوال ستستمر السياسة التركية التدخلية تعبر عن ممارسات غير مشروعة وراءها أحلام وطموحات رئاسية، وفي ظل حالة من تردي الأوضاع الداخلية في تركيا، وانهيار قيمة الليرة، ودخولها نفقا مظلما جراء سياسات أردوغان، والذي يسعى لاستعادة المجد الزائف للإمبراطورية العثمانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة