تركيا وإسرائيل.. حقبة جديدة بطلها "الغاز"
بعد سنوات من الجفاء، تعود تركيا إلى إنعاش علاقاتها مع إسرائيل، في ظل حديث عن "غاز المتوسط"، وسط تحديات عالمية متشعبة.
وتؤكد البيانات الرسمية الصادرة عن معهد الإحصاء التركي وجمعية المصدرين الأتراك والبنك المركزي أن العلاقات الاقتصادية وحجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل يزداد قوة، ويدعمه تصاعد حجم الاستثمارات المباشرة المتبادلة بين البلدين.
في عام 2020 صدّرت تركيا 4.7 مليار دولار إلى إسرائيل. وبهذا الرقم احتلت الأخيرة المرتبة التاسعة بين الدول التي تصدر لها تركيا أكثر من غيرها.
وفي الأشهر الأربعة الأولى من عام 2021 ارتفعت صادرات تركيا إلى إسرائيل إلى مليار و851 مليون دولار، بزيادة قدرها 35% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وأصبحت إسرائيل الدولة الثامنة لصادرات تركيا في هذه الفترة، حسبما أورد مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في تقرير له أغسطس الماضي.
أمن الطاقة.. ومشروع غاز المتوسط
ما يهم تركيا في المقام الأول هو تحسين العلاقات الاقتصادية لأن تركيا متضررة بشدة من أزمة عملة صاحبها تضخم بنسبة قاربت 70%.
فيما تمضي إسرائيل قدمًا مع دول أخرى في مشروع خط غاز في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، وأدى استبعاد تركيا من هذا المشروع إلى استياء حكومة أنقرة.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا قال إن لديه "آمالا قوية جدا" في التعاون مع إسرائيل في مجال الطاقة، وعبر عن أمله في بحث الأمر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت.
وتكشف زيارة وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، إلى إسرائيل، لعقد لقاء مع نظيره الإسرائيلي يائير لبيد، النقاب عن مشروعات وخطط في مجال الطاقة ربما تمثل انفراجة ولو نسبية لتركيا وأوروبا فيما يتعلق بإمدادات الغاز في ظل تصاعد العقوبات الغربية المفروضة على واردات الطاقة الروسية بسبب حربها في أوكرانيا، والتخطيط أوروبيا للتخلي عن الغاز الروسي على المدى المتوسط.
التقارب الواضح علنيًا اليوم، كشف عن إحياء تركيا لمشروع لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا؛ حيث تسعى أنقرة لتقليل اعتمادها على روسيا. لكن الخطة تواجه شكوكًا إسرائيلية بشأن التوترات الدبلوماسية السابقة ويبدو أنها أضغاث أحلام في نظر الخبراء بسبب تعقيدها اللوجستي وتكلفتها.
وأعرب الرئيس رجب طيب أردوغان عن استعداده "للتعاون (مع إسرائيل) في مشاريع الطاقة وأمن الطاقة" مع احتمال شحن الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا حيث يثير الصراع في أوكرانيا مخاوف بشأن الإمداد.
وقال أردوغان إن تركيا لديها الخبرة والقدرة على تنفيذ مثل هذه المشاريع، في حين أظهرت التطورات الأخيرة في المنطقة مرة أخرى أهمية أمن الطاقة.
من جانبه، رأى غابي ميتشل الزميل في معهد ميتفيم في إسرائيل خلال تصريح لوكالة فرانس برس، أن "علاقات الطاقة تصوغها دول تعاونية تثق بها". وقال: "هناك من يجادل في إسرائيل بأن أردوغان حزب غير جدير بالثقة".
الرئيس التركي معروف بثورته الغاضبة على إسرائيل، خاصة بسبب سياستها تجاه الفلسطينيين. في عام 2009، انسحب من لجنة دافوس بعد تبادل حاد مع الرئيس الإسرائيلي آنذاك، شيمون بيريز.
وكانت تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي الحليف الرئيسي لإسرائيل في العالم الإسلامي حتى أزمة 2010 حيث قتل 10 مدنيين في غارة إسرائيلية على سفينة كانت تسعى لخرق الحصار المفروض على قطاع غزة.
في عام 2016، اتفق البلدان على البدء في دراسة جدوى إنشاء خط أنابيب تحت البحر لضخ الغاز الإسرائيلي إلى المستهلكين الأتراك وإلى أوروبا. لكن لم يتم إحراز أي تقدم وسط التوتر بين الجانبين.
تداعيات لوجستية جيوسياسية
فيما يمر مشروع خط الأنابيب عبر المياه المثيرة للجدل في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث غالبا ما تكون تركيا وأعضاء الاتحاد الأوروبي قبرص واليونان على خلاف.
وقال ميتشل: "هذا ليس شيئًا تهتم إسرائيل بمتابعته لأنه سيلحق الضرر بالعلاقات" مع قبرص واليونان والاتحاد الأوروبي.
وبدورها، قالت آرون شتاين مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد أبحاث السياسة الخارجية لفرانس برس "لم أعتقد قط أن المشروع ممكن.. تعود فكرة المشروع في كل مرة يحدث فيها ذوبان الجليد، لكن الخدمات اللوجستية اللازمة لنقلها من حلم إلى حقيقة معقدة ومكلفة".
ولفتت شتاين إلى أن بعض التقارير الإعلامية تؤكد أن خط الأنابيب من الحقول الإسرائيلية إلى تركيا قد يكلف 1.5 مليار دولار.
وتعتمد أنقرة بشكل كبير على روسيا في وارداتها من الطاقة، حيث لبت مصادر روسية 45% من طلبها على الغاز العام الماضي، وهي حريصة على تنويع الإمدادات، مع التركيز عن كثب على موارد إسرائيل النامية.
وتستورد تركيا الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب "إيست ميد" من روسيا وأذربيجان وإيران. كما أنها تشتري الغاز الطبيعي المسال من الموردين بما في ذلك قطر ونيجيريا والجزائر والولايات المتحدة.
وقال خبير الطاقة نجدت بامير من جامعة قبرص الدولية إن "خط أنابيب الغاز الذي يعبر جنوب تركيا من الناحية النظرية أمر منطقي".
وأشار إلى أن تركيا استهلكت 48 مليار متر مكعب من الغاز عام 2020، ووصلت إلى 60 مليار متر مكعب في عام 2021 وتقدر بنحو 62-63 مليار متر مكعب هذا العام. وأضاف بامير: "نحتاج إلى إمدادات غاز بديلة واتفاقيات جديدة تصب في مصلحة تركيا طالما أن الظروف بما في ذلك التمويل قد نضجت".
وترى تركيا أن مشروع الغاز مع إسرائيل أكثر جدوى من خط أنابيب إيست ميد على الرغم من التحديات.
وصرح مسؤول تركي في مقابلة مع وكالة فرانس برس "انه ليس مشروعا يبدأ اليوم وينتهي غدا.. إنه أمر صعب ولكنه معقول وممكن، خاصة بالمقارنة مع إيست ميد بقيادة اليونان".
أهمية استراتيجية للبلدين
خلال زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لتركيا في مارس 2022، كان من أهم القضايا المطروحة على الأجندة موضوع مشروع خط الأنابيب الذي يهدف إلى نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عن طريق تركيا، وهو المشروع الذي يحظى بأهمية إثر تعثُّر مشروع "إيست ميد" لنقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، وفي ظل الأزمة الأوكرانية التي دفعت الغرب إلى البحث عن بدائل للغاز الروسي إلى أوروبا.
وقد أشار مركز الإمارات للسياسات في تقرير نشره أبريل/نيسان الماضي، إلى أنه يمكن اعتبار عام 2020 نقطة انطلاق إشارات التقارب بين تركيا وإسرائيل بشكل غير مباشر، ففي ذلك العام وقّعت كلٌّ من اليونان وقبرص ومصر ودولة الإمارات وفرنسا في 11 مايو/أيار بياناً اتهم تركيا بعرقلة مشاريع الغاز والنفط في شرق المتوسط بسبب "تصعيدها العسكري" في المنطقة، وعلى الرغم من مشاركة إسرائيل في ذلك الاجتماع إلا أن تل أبيب لم توقع على ذلك البيان.
واعتبرت أنقرة هذا الأمر مؤشراً إيجابياً، وسعت بعدها على الفور، ومن خلال اتصالات سرية، إلى عرض توقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع إسرائيل، لكن حكومة بنيامين نتنياهو رفضت ذلك العرض حينها. وطالب وزير الخارجية التركي مولود شاوش أوغلو إسرائيل بإلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بينها وبين قبرص التي وُقِّعَت عام 2021، وقال الوزير التركي أن إسرائيل ستكون الرابح الأكبر من إلغاء هذه الاتفاقية واستبدالها باتفاقية ترسيم حدود بحرية مع تركيا، إذ إن ذلك سيعطي إسرائيل مساحة إضافية في شرق المتوسط تقدر بنحو 4600 كيلومتر مربع. لكن إسرائيل لم تتراجع عن اتفاقيتها مع قبرص رغم هذا العرض التركي.
من أهم ملفات التعاون-الخلاف العالقة بين تركيا وإسرائيل، مخطط مشروع نقل إسرائيل وتصدير غازها المكتشف على سواحلها إلى أوروبا عبر تركيا. ففي عام 2016 وقّعت إسرائيل مع قبرص واليونان اتفاقاً من أجل نقل غاز إسرائيل وقبرص عبر اليونان إلى أوروبا فيما عرف بمشروع "إيست ميد"، لكن وبشكل مفاجئ أعلنت واشنطن في يناير/كانون الثاني 2022 سحب دعمها لهذا المشروع الذي تعمل على تنفيذه شركات أمريكية.
حينها اغتنم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الفرصة وصرح قائلاً "لقد أعادت واشنطن التفكير في هذا المشروع بعد إجراء حسابات مالية واقتصادية صحيحة أثبتت عدم الجدوى الاقتصادية من هذا المشروع، وكنا قد عرضنا في السنوات السابقة على إسرائيل التعاون معها من أجل نقل الغاز المكتشف إلى أوروبا بمالية أقل، لكن حينها رفضت الحكومة الإسرائيلية التعاون في هذه الصفقة، فهل تعيد تل أبيب حساباتها الآن؟ لم لا، يجب أن نجلس ونتناقش مجدداً من أجل البحث عن حلول أفضل".
وفي هذا الإطار يتعيَّن إلقاء نظرة على تقرير إسرائيلي مهم صدر في يونيو/حزيران 2021، عن لجنة من المتخصصين الإسرائيليين التي شكلتها الحكومة الإسرائيلية تحت مظلة ثماني وزارات مَعنية بشأن الطاقة والغاز والاقتصاد.
وركز هذا التقرير الذي صدر تحت اسم "Adiri-2" على أن فرصة إسرائيل لتصدير غازها والاستفادة منه تتراجع بسرعة مع الوقت، وعلى الرغم من وجود إقبال عالمي على شراء الغاز وتوقيع عقود طويلة الأجل لشرائه، إلا أن هذا الإقبال سيتراجع بعد عام 2030، مع دخول الطاقة المتجددة حيزاً أوسع في الاستعمال حول العالم. وعليه فإن الطلب على الغاز عالمياً سيتراجع بعد 20-25 عاماً على الأكثر. وإن لم تحسم تل أبيب أمرها في تحديد المسار الأفضل لتصدير وبيع الغاز فإنها قد تخسر نحو 71 مليار دولار، وفق تقديرات هذا التقرير الإسرائيلي.
ووفق هذا التقرير فإن احتياطات الغاز الإسرائيلية تقدر بنحو 1000 مليار متر مكعب، ومن المتوقع أن تستخدم إسرائيل نحو 500 مليار متر مكعب من هذا الاحتياط في تأمين احتياجاتها الداخلية حتى عام 2045، مما يعني أن كمية الغاز الإسرائيلي التي سيتم تصديرها ليست كبيرة كما كانت التقديرات الأولية.
لكن التقرير يشير أيضاً إلى احتمال اكتشاف إسرائيل المزيد من الغاز وبكميات تزيد عن 500 مليار متر مكعب مستقبلاً، وهو أمر يزيد من القمة الاقتصادية لتصدير الغاز، ولكن يجب مراجعة الكلفة وخفضها قدر الإمكان من أجل تحقيق الربحية الأكبر في حال عدم اكتشاف احتياطات جديدة.
وعليه فإن التقرير يرى أن مدّ أنبوب للغاز من إسرائيل إلى ميناء جيهان في مرسين جنوب تركيا لنقله بعد ذلك إلى أوروبا هو الاقتراح الأسهل والأقل كلفة، إذ إن كلفته تقدر بنحو 2.5 مليار دولار فقط.
لكن مشكلة المشروع أن هذا الخط يجب أن يمر بالمياه الإقليمية لقبرص، ومع استمرار الخلاف السياسي بين تركيا وقبرص، فإنه من غير المتوقع أن يحظى هذا المشروع بموافقة قبرص.
لكن تركيا طرحت من خلال عدد من الرسائل السياسية السرية إلى إسرائيل وواشنطن عام 2020 فكرة فصل الخلافات السياسية بين قبرص وتركيا عن مشاريع التعاون في الطاقة بين دول المنطقة، وذلك من خلال إسناد مشاريع الطاقة إلى شركات دولية عالمية لا تتبع لقبرص أو تركيا، في محاولة من أنقرة لتسهيل تنفيذ هذا المشروع.
وحينها بدأت بالفعل مفاوضات سرية بين تركيا وإسرائيل من أجل بحث إمكانية تنفيذ هذا المشروع، لكن المشاكل السياسية بين البلدين حالَت دون تذليل خلاف الرأي حول تقاسم مالية هذا المشروع، حيث رفض الجانب الإسرائيلي بيع الغاز إلى تركيا بأسعار تفضيلية في إطار هذا المشروع، كما رفض الحصة التي طلبتها تركيا من بيع هذا الغاز إلى أوروبا، وبقي المشروع معلقاً منذ ذلك الوقت دون تفاهمات.
وعليه يبقى هذا المشروع معلقاً إلى حين تحسين العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بشكل يساعد على تجاوز هذه الخلافات، بالإضافة إلى الحاجة الملحة إلى دعم أمريكي للمشروع لتوفير التمويل وإقناع قبرص بالانضمام إليه أو الموافقة على مرور خط الغاز عبر مياهها الإقليمية.
فيما تعتمد تركيا بشكل شبه كامل على استيراد الغاز والنفط من الخارج، ويؤمّن الغاز نحو 32% من احتياجات تركيا من الطاقة، وتستورد تركيا الغاز من روسيا وإيران وأذربيجان ونيجيريا والجزائر بشكل أساسي، بالإضافة إلى مصر وقطر بشكل جزئي.
لكن واردات تركيا من الغاز الروسي تشكل نحو 37% من إجمالي وارداتها من الغاز وهو رقم كبير، علماً بأن هذا الرقم تراجع عن نسبة 54% التي كانت تستوردها تركيا من روسيا قبل خمس سنوات، حيث سعت تركيا بخطى تدريجية إلى خفض حصة الغاز الروسي من وارداتها، بهدف التقليل من الاعتماد على روسيا التي دخلت معها في تنافس إقليمي يبدأ من سوريا وجنوب القوقاز ويمتد إلى ليبيا وأفريقيا.
وكما ذكرنا فإن احتياطات إسرائيل من الغاز تبلغ نحو تريليون متر مكعب، وهي كمية تكفي احتياجات تركيا من الغاز لمدة 20 عاماً.
وعلى الرغم من أن الخطط الإسرائيلية قائمة على تصدير 50% فقط من مخزونها الغازي، إلا أن هذه الكمية أيضاً تبدو كافية لتركيا لكي تستغني عن الغاز الروسي تماماً لمدة 15 عاماً، أو لكي تخفض وارداتها من الغاز الروسي إلى 15% لمدة 20 عاماً.
وفي حال استطاعت تركيا تشغيل مفاعلها النووي –مفاعل أكيو– خلال السنوات المقبلة، فإن هذا سيساعدها على الاستغناء بشكل كبير عن الغاز الروسي.
وبالإضافة إلى سدّ حاجات تركيا من الغاز، فإن خط الغاز الإسرائيلي إلى تركيا سيُعيد أنقرة لاعباً مهماً في شرق المتوسط، وسيساعد أنقرة على تقوية أوراقها في مواجهة التحالف اليوناني-القبرصي في المنطقة.
aXA6IDMuMTQ2LjE1Mi4xMTkg جزيرة ام اند امز