إدلب وما تبقى من الشمال السوري؛ قد يكون هذا الملف هو الأكثر تعقيداً وصعوبة فيما تبقى من ملفات تعيق إنهاء الأزمة السورية.
معركة سوريا اليوم هي الأهم وذات المفصل في ميادين القوى الاستراتيجية في مدينة إدلب وأريافها، وفيها ستحرق الرهانات التي كان يطلقها أردوغان خلال تدخلاته في مناطق الشمال السوري، واتضحت سياسته الخادعة والملتوية أمام العالم حيث يلعب أدوارا متناقضة، فتارة يتخذ موقفاً عدائياً من الغرب الذي يعتبره خصماً له وتارة أخرى ينطلق من محور الشراكة التركية الأوربية عدا تصريحاته بمحاربة الإرهاب.
أليس أردوغان من فتح الحدود أمام تلك المليشيات التكفيرية مع بداية الأزمة السورية؟ والآن يحارب لأجل رسم حدود جديدة وتوطين ما تبقى من عناصر التنظيمات التكفيرية على الأراضي السورية والعمل على عدم عودتها إلى تركيا
تركيا لديها أطماع بكل دول المنطقة وتبرز تحدياتها للدول المجاورة لها سواء العراق أو سوريا، وما تقوم به هذه الأيام هو إحياء للخلافة العثمانية التي دفنها الأتراك أنفسهم حين أعلنها كمال أتاتورك دولة علمانية لكن الخليفة الجديد الواهم يريد إظهار ما عفا عليه الزمن، وتركيا الأردوغانية تعتبر نفسها علمانية ثم تلفعت وتحالفت مع الكيان الصهيوني تحت المظلة الأمريكية وتأتي حملتها العسكرية على الأراضي السورية لاعباً بالسوريين وليست مدعاة للحرية أو لحقوق الإنسان أو لمفاهيم الديمقراطية وإنما للهيمنة ومشروع العثمنة.
وكل ما تخشاه تركيا عودة المليشيات المسلحة إلى الداخل التركي بعد تحرير إدلب وضواحيها من الإرهابيين، أليس أردوغان من فتح الحدود أمام تلك المليشيات التكفيرية مع بداية الأزمة السورية؟ والآن يحارب لأجل رسم حدود جديدة وتوطين ما تبقى من عناصر التنظيمات التكفيرية على الأراضي السورية والعمل على عدم عودتهم إلى تركيا.
الأروقة السياسية في أنقرة تخشى بقوة من لجوء النظام السوري وحلفاؤه بتفوقهم العسكري على الأرض إلى مهاجمة إدلب حتى لو أدى ذلك إلى إنهاء مسار أستانا وإغضاب تركيا التي لديها 12 نقطة مراقبة في المحافظة، وإذا ما وقعت هجمات على هذه المنطقة فإن هذا يعني نهاية المحادثات السياسية مع روسيا وإيران الضامنتين لمساري أستانا وجنيف.
النظام السوري كثف منذ منتصف شهر تموز الحالي استهدافاته النارية لمواقع الإرهابيين مستخدماً مختلف صنوف الأسلحة مع محاولات التصعيد التي شهدتها الجبهتان الشمالية والشمالية الشرقية لريف اللاذقية، حيث سعى المسلحون لخرق نقاط التماس مستغلين المراقبة والتغطية النارية التركية لتأمين تحركاتهم.
توافقات المرحلة المقبلة بين تركيا وروسيا في إدلب غير واضحة أو معلنة، إلا أن التطورات تشير إلى أن أنقرة باتت اليوم أمام مواجهة خيارين كل واحد منهما أصعب من الآخر ويتمثلان في اتخاذها خطوات عملية عسكرية على الأرض لمحاربة جبهة تحرير الشام أو مواجهة هجوم عسكري روسي كبير يؤدي إلى مذابح ومئات القتلى إلى جانب خطر هروب أعداد هائلة من المدنيين باتجاه الحدود التركية.
منذ البداية اتفقت تركيا مع روسيا على مواجهة جبهة النصرة، وذلك عبر التأكيد مراراً على أنها تنظيم إرهابي يجب التخلص منه في أسرع وقت، إلا أن روسيا فضلت على الدوام الخيار العسكري المباشر، في حين طرحت أنقرة خيارات أخرى وطلبت التريث والاستمهال من موسكو لحل المسألة لكن محاولاتها باءت بالفشل.
وتمثل خيار أنقرة في عدم الدخول بمواجهة عسكرية مباشرة مع جبهة النصرة، واستنزافها تدريجياً من خلال بناء تشكيلات عسكرية جديدة واستقطاب العناصر غير المتشددة من هيئة تحرير الشام وعزل التنظيم تدريجياً وصولاً لإضعافه وإنهاء انتشاره بأقل الخسائر وعبر عمليات عسكرية.
تركيا إن تصدت لأي هجومٍ سوري روسي قد تخسر حليفها الروسي وهذا مستبعد، وفتح حدودها أمام ثلاثة ملايين من مواطِني المحافظة الذين يريدون الهروب، وأردوغان بالأساس لا يريد لاجئاً سورياً واحِداً جديداً على أرض بلاده، ويتطلع إلى التخلص من ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ بإعادَتِهم إلى بلادهم، وربما يخضع للضغوطات الخارجية في تصفية مقاتلي هيئة تحرير الشام على أيدي الجبهة الجديدة التي أشرفت مخابراته على تأسيسها.
إدلب وما تبقى من الشمال السوري قد يكون هذا الملف هو الأكثر تعقيداً وصعوبة فيما تبقى من ملفات تعيق إنهاء الأزمة السورية، بما يحمله من معطيات عسكرية ميدانية واستراتيجية داخلياً أو إقليمياً أو حتى دولياً، والسبب أنها المنطقة الوحيدة التي ما زالت تحتضن جميع الإرهابيين، والذين طالما لعبوا دور الانقضاض الإقليمي والدولي على سوريا وكانوا وسيلة الخرق الأساسية في الداخل السوري وفي تدمير وقتل وتهجير أبناء سوريا، والذين كانوا يشكلون الذراع المنفذة لمخططات الخارج وأجندته في سوريا، ومن الطبيعي أن تصعب وتتعقد عملية اقتلاعهم أو تدميرهم أو إنهاء وجودهم في حين موضوع الحسم العسكري يظل وارداً وممكناً بنسبة كبيرة.
الرئيس بوتين أبلغ أردوغان أن "لا تخسر كل الثقل الدولي دفعة واحدة ولا تجعل مسألة العداء الجماعي تُدمر تركيا بشكل أسرع من المعقول ولا تحرق أوراق تركيا في سوريا، واجعلها جهود تسوية لا جهود حروب".
إذن على التركي أن يفهم الأمور بشكل منطقي ويقبل بفكرة انسحاب قواته والتراجع إلى حدود الـ600 كيلومتر أي إلى ما قبل عام 2011م خصوصاً مع سيطرة الجيش السوري على العديد من المواقع التي كانت خاضعة لسيطرة الإرهابيين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة