الهدف في ليبيا لا يقتصر على الجغرافيا الليبية، بل أمن واستقرار مصر التي كانت البداية التي سقط فيها المشروع التركي.
الدور التركي المستهدف للاستقرار في ليبيا، والذي يدفع إلى إبقاء الدولة الليبية في استمرارية حالة الفوضى وعدم الاستقرار، والذي بات هذا الدور مكشوفا، ولم يعد بالإمكان التغطية عليه، بعد أن ضبط الجيش الليبي شحنتين من الأسلحة التركية في كل من ميناءي الخمس ومصراتة، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الدور التركي لا يقتصر فقط على الدولة الليبية بل يأتي ضمن إطار مخطط أوسع يستهدف المنطقة العربية بأكملها، مخطط يستهدف الأمن والاستقرار وتغذية الفوضى والعنف، هو مخطط تحتل تركيا في تنفيذه العمود الفقري، وتمثل إيران الداعم الرئيسي لها، فالدولتان الدخيلتان على المنطقة واللتان تمتلكان أطماعا توسعية، تكملان بعضهما البعض في مشروع تغذية العنف والفوضى في المنطقة العربية.
الدور التركي الرامي إلى استمرارية العنف والفوضى في ليبيا، واستمرارية حالة عدم الاستقرار، وضرب التسوية السياسية عبر تصدير الأسلحة التركية، لا يمكن النظر له بعيدا عن الأطماع العثمانية في العقلية السياسية لأردوغان
لابد من العودة للخلف لمعرفة وقراءة الأهداف التركية أو الأطماع التركية في المنطقة العربية بشكل واضح، ففي العام 2004م، نشرت صحيفة يني شفق التركية، أن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عرض على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معالم مشروع أمريكا الجديد للشرق الأوسط الكبير، وجعل من تركيا عموداً فقرياً و"طلب بوش من أردوغان أن تقوم تركيا بدور محوري في تنفيذ المشروع الأمريكي الجديد، بالترويج لما أسماه نموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني، وهو مخطط كشف عنه وعن أهدافه بوضوح وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو في العام 2012 عندما صرح بأن المنطقة تشهد تغييراً؛ إما القبول بالشرق الأوسط الجديد وإما الفوضى، وصرح أوغلو أيضاً عقب وصول جماعة الإخوان إلى السلطة في مصر بأن تركيا ومصر ودول المنطقة ستؤسس للشرق الأوسط الجديد".
لم تكن الديمقراطية ودعم الشعوب في تقرير مصيرها هما الدافع لتحرك أردوغان في مشروع الربيع العربي، بل إن الدافع خلف ذلك هو أن أردوغان وجد في مرحلة الربيع العربي فرصة لإعادة الحلم العثماني، كان أردوغان ينظر لجماعة الإخوان بأنها الذراع والقوة الناعمة لتركيا في الشرق الأوسط.
كان الهدف الرئيسي لدى أردوغان هو إيصال الإخوان للحكم في الدول التي عاشت مرحلة الربيع العربي، ولأنه لم يعد بالإمكان تغيير الخارطة الجغرافية لتحقيق الأطماع العثمانية، كان أردوغان يهدف عبر ذراعه جماعة الإخوان إلى إعادة الأطماع العثمانية بالسيطرة السياسية لا العسكرية، وقد كان ينظر أردوغان لوصول الإخوان للحكم في الدول التي عاشت مأساة الربيع العربي: مصر، سوريا، ليبيا، تونس، بأن مثل هذه الخطوة سوف تمكّن تركيا من الاستيلاء على القرار السياسي للدول التي وصل الإخوان فيها للحكم، والعمل على أن يكون قرار هذه الدول السياسي تابعا لتركيا، وهو بالتالي ما يعني تبعية هذه الدول لأنقرة، وكذلك محاولة لتوظيف ذلك لصناعة قوة للأتراك في المنطقة بعد أن فشل أردوغان في أن يصنع لتركيا قوة سياسية واقتصادية عبر محاولاته المتكررة واليائسة لتحقيق حلم الانضمام إلى منظومة الاتحاد الأوروبي والتي وصلت مفاوضات الانضمام فيها إلى طريق مسدود.
كان سقوط الإخوان في مصر عبر ثورة الثلاثين من يونيو، التي نجحت في عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي، ضربة قاصمة للمشروع التركي، هذا ما يفسره صراخ أردوغان الذي فقد أهم ركيزة في مشروعه وأطماعه في المنطقة العربية وهو السيطرة على مصر وبما تمثله من مكانة مهمة وثقل في النظام الإقليمي العربي، وهو ما أحدث استدارة قوية في التعامل التركي مع مرحلة الربيع العربي، خاصة أن سقوط الإخوان في مصر كان له تداعيات على وصول الإخوان أو استمرارية بقائهم في الحكم في الدول التي عاشت الربيع العربي، خاصة بعد موجة الرفض الشعبي للجماعة الإخوانية في الشارع العربي.
بعد أن أدرك أردوغان استحالة وصول الإخوان للحكم، وأن تركيا فقدت السيطرة السياسية على الدول التي عاشت مرحلة الربيع العربي، اتجه إلى العمل على استمرارية العنف والفوضى في دول الربيع العربي، وكانت البداية في سوريا التي انقلب أردوغان على شعاراته السابقة في دعم المعارضة السورية بعد أن أدرك أن الإخوان في سوريا باتت فرص انفرادهم بالحكم ضعيفة، وبدأ في توجيه الدعم للجماعات والتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش، حيث أسهمت أنقرة في تسهيل عبور المقاتلين المنظمين إلى تنظيم داعش، فقد كشفت " مجلة فورين بوليسي" عن أن المقاتلين الأجانب من جميع أنحاء العالم، والذين شكلوا العمود الفقري والقوة الضاربة لداعش، سافروا أولًا إلى تركيا ثم إلى العراق وسوريا، وأنه في عام 2013 اجتاز نحو 30 ألف مقاتل الأراضي التركية، وفى العام 2014 قال الرئيس التركي عبدالله غول: "إن داعش لا يمثل خطراً أو تهديداً أيديولوجياً على تركيا"، وهو ما يعكس بالتالي الثقة بين تركيا وتنظيم داعش، وربما يكشف عن ضمانات من قبل داعش لأنقرة بعدم تشكيل أي تهديد لأمنها واستقرارها، وكشفت أيضا "مجلة فورين بوليسي" أن مقاتلي داعش تلقوا العلاج المجاني في مستشفيات جنوب شرقي تركيا.
ولم يقف الدور التركي عند تسهيل عبور مقاتلي داعش، بل تعداه إلى توفير الدعم المالي عبر شراء النفط، فقد نشرت وزارة الدفاع الروسية مجموعة من صور الأقمار الاصطناعية، قالت إنها تثبت تورط القيادة التركية في شراء النفط من تنظيم داعش الإرهابي الذي يسيطر على مناطق في سوريا والعراق.
يمكن أن نلخص النظرة التركية تجاه دول الربيع العربي بـ(إما السيطرة السياسية على دول الربيع العربي عبر جماعة الإخوان وإما العمل على استمرارية العنف والفوضى فيها عبر دعم تنظيم داعش)، ولذلك نجد أن تنظيم داعش كما هي جماعة الإخوان المسلمين في العقلية السياسية لأردوغان "ذراع للسيطرة"، وهي محاولة لإضعاف المنطقة العربية حتى يتسنى لأنقرة أن تعيد أطماعها العثمانية عبر القوة العسكرية بعد أن فشلت عبر السيطرة السياسية، وهو ما نلاحظه في الشمال السوري بشكل واضح.
تحت ذريعة محاربة تنظيم داعش الذي سعت تركيا إلى تسهيل دخول عناصره إلى سوريا، اتسعت رقعة النفوذ التركي شمالي سوريا على نحو غير مسبوق، منذ أن أطلقت أنقرة عملية درع الفرات في أغسطس 2016، ودخلت دباباتها للأراضي السورية لأول مرة، التي سعت إلى ترسيخ ملامح الاحتلال التركي في الشمال السوري، وامتدت الهيمنة التركية لتشمل الكتب المدرسية ولافتات الطرق والمؤسسات العامة التي باتت تعج باللغة التركية.
الدور التركي الرامي إلى استمرارية العنف والفوضى في ليبيا، واستمرارية حالة عدم الاستقرار وضرب التسوية السياسية عبر تصدير الأسلحة التركية، لا يمكن النظر له بعيدا عن الأطماع العثمانية في العقلية السياسية لأردوغان، لكن الهدف في ليبيا لا يقتصر على الجغرافيا الليبية، بل الهدف الرئيسي هو أمن واستقرار مصر التي كانت البداية التي سقط فيها المشروع التركي الرامي إلى السيطرة السياسية عبر جماعة الإخوان، والتي كانت الشرارة التي منها انطلقت الموجة الشعبية الرافضة للجماعة الإخوانية، ولذلك نجد أن ما تفعله تركيا من خلال إرسال الأسلحة للتنظيمات الإرهابية في ليبيا، إنما هي محاولة لإبقاء ليبيا التي تحدها مصر، بؤرة ساخنة وأرضا تنشط فيها التنظيمات الإرهابية؛ للتأثير على الأمن والاستقرار في مصر التي تحد ليبيا من جهة الشرق، والتي تمثل ليبيا عمقا استراتيجيا أمنيا بالنسبة للدولة المصرية، فالدولتان تجمع بينهما حدود في مسافة تصل إلى 1200 كيلومتر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة