هناك تعديلات أخرى اعتبرها حزب الشعوب الديمقراطية الكردي تهدف إلى منع عدد كبير من الناخبين الأكراد من التصويت.
خلال الأسبوع الماضي انشغلت تركيا بحدثين مهمين، كادا يغطيا على أخبار تطورات عملية عفرين العسكرية. الأول كان تصريح الرئيس رجب طيب أردوغان حول "تجديد الدين" الذي تراجع عنه مصححا بقوله إنه كان يقصد "تحديث النظرة للدين الإسلامي والفتاوى"، والثاني كان التعديلات التي أقرها البرلمان بأصوات نواب الحكومة وحزب الحركة القومية على قانون الانتخابات.
في الحادثة الأولى أبدى الرئيس أردوغان انزعاجه من تكاثر الفتاوى الدينية التي يطلقها رجال دين أتراك تثير الكثير من اللغط وتسيء إلى الدين الإسلامي الحنيف، منها تحريم ارتداء المرأة للبنطلون، وحرمة دخول المرأة مع الرجل إلى المصعد، وحرمة الزواج من امرأة أمها شابة وجميلة بحجة أن والدة الزوجة قد تثير الزوج، وكذلك حرمة اختيار ملاحف للسرير للسبب السابق، وغيرها كثير مما لم ينزل الله به من سلطان من رجال محسوبين على ديننا الحنيف. ناهيك عن اتجار بعض هؤلاء بالدين من خلال بيع أكفان لا تحترق في القبر وأحذية مقروء عليها القران تجلب العفو الإلهي.
يبدو واضحا تأثير استخدام عنصر الدين في السياسة الداخلية والخارجية لحكومة العدالة والتنمية على المجتمع ووسائل الإعلام، وهو ما أدى إلى انتشار هذه الظاهرة، بعد أن كانت تركيا تسعى لأن تكون دولة للاعتدال الإسلامي في المنطقة
للرئيس أردوغان كل الحق في إبداء انزعاجه من هذه الظاهرة، خصوصا أن هذه الفتاوى وأصحابها تكاثروا بشكل غير مسبوق في تركيا. لكن المعارضة السياسية ترى أن هذا التكاثر ما كان ليحدث لولا السياسة العامة للحزب الحاكم والرئيس أردوغان شخصيا التي تقحم الدين في أمور السياسة. من ظهور الرئيس أردوغان حاملا القرآن الكريم بيده في إحدى حملاته الانتخابية عام 2015، إلى عشرات التصريحات عن الإسلام بين سطور الخطب السياسية. وأن أصحاب تلك الفتاوى ما كانوا ليجرؤوا على الظهور إلى العلن بهذا الشكل لولا أن الجو السياسي عموما في تركيا يسمح بذلك، بل يشجع عليه. إذ يبدو واضحا تأثير استخدام عنصر الدين في السياسة الداخلية والخارجية لحكومة العدالة والتنمية على المجتمع ووسائل الإعلام، وهو ما أدى إلى انتشار هذه الظاهرة، بعد أن كانت تركيا تسعى لأنْ تكون دولة للاعتدال الإسلامي في المنطقة. بل إن الوضع تفاقم في الجهل الديني لدرجة استضافة القنوات الحكومية لأستاذ جامعي قال بأن نبي الله نوح كان يقود سفينة تعمل بالطاقة النووية وأنه اتصل بابنه لإنقاذه من خلال هاتف جوال، دون أن يثير هذا الأمر حفيظة أي من المسؤولين.
والمثير أيضا أنه في الوقت الذي كان يبدي فيه أردوغان انزعاجه من هذه الفتاوى، صدر عدد من مجلة "فكرنامة" التابعة لوقف تورغيف الذي يرأسه بلال ابن الرئيس أردوغان، وتدعو المجلة في مقالها الرئيسي إلى منع الاختلاط في المدارس وتحذر الشباب التركي من الجنسين من الاختلاط أو حتى الحديث المباشر بحجة "أنْ لا أحد يعرف إلى أين يمكن أن ينتهي هذا الحوار بين الشاب المسلم والشابة المسلمة"!
الحدث الثاني – وهو الأهم – كان إقرار تعديلات على قانون الانتخابات، وإن كان الهدف المعلن لهذه التعديلات هو السماح بحصول تحالفات انتخابية بين الأحزاب في الانتخابات البرلمانية، إلا أن ما تم إقراره من تعديلات على آلية الاقتراع أثار انتقادات أحزاب المعارضة التي اعتبرت أن هذه التعديلات تفتح باب التزوير على مصراعيه، وتعطي الحكومة الأفضلية في مراقبة الانتخابات والتحكم في نتائجها.
فمن بين تلك التعديلات ما يسمح باحتساب أوراق الاقتراع غير المختومة، وهو أمر كان يشدد القانون السابق على رفضه، وهذه الأوراق غير معروفة المصدر كانت السبب في السجال السياسي حول نزاهة الاستفتاء على النظام الرئاسي الذي حصل في أبريل العام الماضي، بعد أن قررت اللجنة العليا للانتخابات احتساب عدد كبير من تلك الأوراق رغم مخالفة ذلك للقانون.
كما تسمح التعديلات – ولسبب غير مفهوم – بأن يستدعي أي ناخب قوات الأمن والشرطة إلى مركز الاقتراع، ما تعتبره المعارضة دعوة لتدخل وزارة الداخلية في مراكز الاقتراع، وقد يستخدم ذلك في الضغط على مراكز الاقتراع التي عادة ما تفوز بأصواتها المعارضة بشكل يمنع الناخبين المعارضين من الإدلاء بأصواتهم كما يقول حزب الشعب الجمهوري المعارض.
وهناك تعديلات أخرى اعتبرها حزب الشعوب الديمقراطية الكردي بأنها تهدف إلى منع عدد كبير من الناخبين الأكراد من التصويت.
أنْ تلجأ حكومة العدالة والتنمية إلى مثل هذه التعديلات في آلية الانتخابات أمر غير مسبوق، خصوصا أنه يثير تساؤلات قوية حول نزاهة الانتخابات القادمة. فالحكومات التركية المتعاقبة منذ 1950 حافظت على نزاهة الصندوق الانتخابي واعتبرت العملية الانتخابية "شرفا قوميا" يجب عدم المساس به، بل إن الجيش وفي أوقات الوصاية العسكرية، لم يمس صندوق الانتخابات رغم تدخله المباشر في الحياة السياسية وقيامه بثلاثة انقلابات عسكرية. فانتخابات عام 1983 التي أعادت الحياة السياسية من جديد بعد انقلاب 1980 اكتسحها تورغوت أوزال، فيما حصل المرشح المدعوم من الجيش حينها تورغوت صونالب على أقل نسبة من الأصوات، ضمن ردة فعل شعبية رافضة للتدخل العسكري.
ولطالما فاخر الأتراك بنزاهة الانتخابات في بلادهم، وأنه لولا هذا الأمر لما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. وعليه فإن التعديلات في قانون الانتخابات الأخيرة يرى فيها كثير من الأتراك تراجعا قويا عن صورة تركيا الديمقراطية.
التراجع المرصود في سجل حقوق الإنسان وعدالة واستقلالية القضاء في تركيا، بالإضافة إلى ما يحصل من انتهاكات لآليات الديمقراطية، وما يجري بالتوازي من ذلك من تصاعد التيار الديني المتطرف في آرائه وتوجهاته يثير القلق والتساؤلات. خصوصا أن ذلك يحدث فيما تجتهد بعض الدول العربية من أجل الاستفادة من دروس ما يسمى بالربيع العربي من خلال محاربة التطرف الديني وإقرار إصلاحات اجتماعية، والاهتمام بالتنمية الاقتصادية والاستقرار، بل إن العراق المتهم بضعف أدائه السياسي لجأ إلى تعزيز نزاهة الانتخابات من خلال التوجه إلى الاقتراع الإلكتروني والشفافية في مراقبة الانتخابات.
وما يزيد من المفارقة في هذه الصورة، هو الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه الحزب القومي القائمة على شعارات قومية تقول بضرورة التصدي لمخططات غربية تسعى لتقسيم تركيا أو تحويلها إلى سوريا أو ليبيا جديدة"، وهنا يبرز التحول في صورة تركيا التي كانت الداعم الأكبر لما يسمى بالربيع العربي من خلال القول بأن الحريات أهم من الاستقرار، لتظهر اليوم بصورة المدافع عن الاستقرار حتى لو كان على حساب الديمقراطية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة