فرصة الموقع والدور الإقليمي التركي أهدرت في أكثر من مكان، بسبب أخطاء ارتكبت في التقدير والتحليل والرصد والمتابعة.
فجرت النقاشات الأمريكية الأوروبية الأخيرة حول إنشاء جيش أوروبي مستقل عن حلف شمال الأطلسي، نقاشا آخر في الداخل التركي حول الخيارات العسكرية والأمنية التركية في حالة حدوث شرخ استراتيجي أوروبي - أمريكي من هذا النوع.. بأي اتجاه ستتخذ أنقرة قراراتها؟ وأين ستكون في عملية اصطفاف من هذا النوع، خصوصا أن العديد من المحللين الأتراك والروس بدأوا في الأعوام الأخيرة يتحدثون عن تقارب تركي روسي أمني متزايد بعد صفقة صواريخ إس – 400 الروسية والعقود الاستراتجية الاقتصادية والتجارية بين البلدين، وفي مقدمتها مشروع "السيل التركي" لنقل الغاز الروسي عبر تركيا إلى أوروبا، ومفاعل إنتاج الطاقة النووية "اك قويو" الذي تعد موسكو لبنائه في تركيا؟
مع من تتحالف أنقرة اليوم؟ أين شراكتها مع الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي، التي هي أمام امتحان صعب في الممارسة والتطبيق؟ وأين وعود الانفتاح على دول الخليج العربي والوقوف صفا واحدا ضد سياسات إيران التهديدية لهذه المنطقة؟
عندما يقر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ريكس تيلرسون بعدم ارتياح بلاده من تحسن العلاقة بين تركيا وروسيا، وعندما تتمسك واشنطن برفض صفقة شراء تركيا لصواريخ إس – 400 روسية، وتعتبر أن التقارب بين البلدين ناتج عن ضعف السياسة الأمريكية في المنطقة، وأن هذه الحالة لن تدوم مع الإدارة الأمريكية الجديدة، فالمقصود هنا هو تحذير الطرفين أن أمريكا ستتخذ المزيد من تدابير منع تحول هذا التقارب الروسي التركي إلى أدوات ضغط إقليمي على المصالح والنفوذ الأمريكي، والحيلولة دون أن تُمنّي موسكو النفس ببناء تحالف أمني استراتيجي مع تركيا يهدد مصالح واشنطن الإقليمية .
من الواضح أن التحرك الأمريكي الإقليمي الأخير بأكثر من اتجاه قد يكون في العلن ضد إيران وسلوكها وسياساتها، لكن المؤكد هنا هو أن الرسائل الأمريكية تستهدف أيضا الغزل التركي الروسي، ورسائل إمكانية ضم إيران والصين إلى هذا التقارب، وتذكير موسكو بصعوبة بناء تحالف مع الجار التركي الذي اختار الالتحاق بالمنظومة الأمنية والعسكرية الغربية منذ عام 1952 تحت مظلة حلف شمال الأطلسي؛ لأن أنقرة نفسها تعرف حجم الارتدادات السلبية لخطوة من هذا القبيل على علاقاتها الغربية قبل غيرها .
حقيقة أخرى لم يعد من السهل تجاوزها وهي أن ظروف وأجواء الحرب الباردة لم تعد قائمة. والخرائط الجيوسياسية والجيواستراتيجية الإقليمية والدولية تغيرت تماما بعد عام 1990، وكذلك الاصطفافات الإقليمية التي تتبدل منذ عام 2011، لذلك فإن الرهان التركي على لعبة التوازنات وتعدد المحاور التي اعتمدتها أنقرة لعقود في سياستها الخارجية هي اليوم أمام ورطة "المشروع التركي" الإقليمي، وصعوبة إقناع واشنطن وروسيا به قبل أن نتحدث عن تراجع فرص قبول دول الجوار التركي بالنهج والأسلوب التركي الشرق أوسطي .
القناعة القائمة حتى اليوم تقول إن أسباب التحاق تركيا بالحلف العسكري الغربي بعد الحرب العالمية الثانية الأمنية والعسكرية لم تعد على حالها، وأن أنقرة حتى ولو تقدم التعاون الاقتصادي والتجاري والتنسيق في جزء من ملف الأزمة السورية مع موسكو في العامين الأخيرين، فهي ما زالت تتوجس من السياسات الروسية في القرم والقوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى، وأن الأتراك يعرفون تماما نقاط التباعد وتضارب المصالح والسياسات بين البلدين، وأن روسيا قادرة على لعب ورقة شرق المتوسط عبر التنسيق الواسع مع اليونان وقبرص وإسرائيل، واتفاقية مونتروي للمضائق التركية التي ما زالت سببا أساسيا في الخلافات التركية الروسية في مياه البحر الأسود، ناهيك عن ملفات تباعد كثيرة بينها الموضوع الأرمني والأزمة في أذربيجان والنظرة الروسية إلى القضية الكردية في المنطقة .
المؤكد أيضا هو أن حجم التقارب أو التباعد بين أنقرة وموسكو يحدده القرار والخيارات الأمريكية الأوروبية، ومدى حاجة القوتين إلى تركيا لتواصل لعب دور خط المواجهة الأول مع روسيا، لكن الأهم من كل ذلك والذي يتناساه البعض في تركيا هو احتمال التقارب الأمريكي الروسي والأوروبي الروسي في التعامل مع ملفات إقليمية استراتيجية، وأن تجد أنقرة نفسها خارج لعبة التوازنات والتفاهمات الواسعة هذه، خصوصا إذا ما ثبت أن الحوار بات ممكنا أو ربما قد يكون أفضل بدون الدور التركي.
مع من تتحالف أنقرة اليوم؟ أين شراكتها مع الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي التي هي أمام امتحان صعب في الممارسة والتطبيق؟ وأين وعود الانفتاح على دول الخليج العربي والوقوف صفا واحدا ضد سياسات إيران التهديدية لهذه المنطقة؟
وما هي فرص التقارب والتنسيق التركي الروسي في ملفات إقليمية ودولية تتضارب فيها المصالح والتطلعات والأهداف؟
أوروبا تقول لا للعضوية التركية، وهو حلم لا بد أن تستيقظ أنقرة من استحالة تحقيقه، فهي إذاً خارج مشروع الجيش الأوروبي، حتى ولو أشعلت واشنطن الضوء الأخضر أمامه .
كما أن مقولة إن أنقرة قادرة على حماية التزامها بالحليف الأمريكي وإقناع الجميع بشراكتها الجديدة مع روسيا، وتمرير فكرة التعاون والتنسيق مع إيران، والتمسك بمشروع توسيع رقعة الانفتاح التركي العربي، لم تعد مسألة بمثل هذه البساطة، فمصالح هذه الدول تتضارب وتتباعد، وهي لن تمكن تركيا الخروج من "اللابيرنت" بهذه السهولة .
في سوريا مثلا النفوذ الأمريكي والروسي هو الذي سيلعب الدور المحوري في رسم خارطة التفاهمات والتسويات مما قد لا يتيح لأنقرة فرصة اللعب على التناقضات أو اختيار الحليف المناسب في الخارطة السورية الراهنة. تركيا تدرك أكثر من غيرها أن احتمالات الحوار والتفاهمات الأمريكية الروسية تقترب يوما بعد آخر، وأن ما تريده من الروس في إدلب ومن الأمريكيين في منبج قد يتحول إلى مصيدة تفاهمات أمريكية روسية حول المنطقتين، تخرج أنقرة من المعادلة تماما إذا ما شعرتا بفرص الاتفاق وسهولته وفوائده .
قد تكون أنقرة غير راضية عن تحالفاتها الراهنة مع أمريكا، بسبب تباعد المواقف والسياسات في أكثر من ملف ثنائي وإقليمي لا سيما في ضوء خيارات واشنطن السورية، والملف الإيراني، وقد تكون المجموعة الأوروبية حسمت موقفها في سحب ملف العضوية التركية مرة جديدة من أمام الطاولة، وقد تكون روسيا جاهزة لتقديم العروض والخدمات لأنقرة مستغلة فرصة تاريخية من هذا النوع، لكن هناك حقائق أخرى لا يمكن تجاهلها: العلاقات التركية الإيرانية والتركية الروسية هي تحت رحمة أكثر من ملف إقليمي ودولي هو الذي سيحدد مسارها ومستقبلها وليس قرارات البلدين وحدهما.
خيارات تركيا في تحديد شركائها وحلفائها مسألة لن تعنيها وحدها بعد الآن، خصوصا إذا ما تمسكت بفكرة قدرتها على المناورة والالتفاف الإقليمي الواسع باتجاه الوقوف على مسافة واحدة من الجميع.. صعوبة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لا تعني بالضرورة سهولة انتمائها إلى اتفاقية شنغهاي، وصعوبة حماية التحالف التركي الأمريكي لا تعني بالضرورة أن التنسيق والتعاون مع إيران هو بمثل هذه البساطة.. كل خيار وله مترتباته وثمنه، والأخطر في كل ذلك هو إقناع 80 مليون مواطن تركي بغربية الهوى وشرقية الجذور وأطلسية المصالح وأفروآسيوية الروح.
فرصة الموقع والدور الإقليمي التركي أهدرت في أكثر من مكان؛ بسبب أخطاء ارتكبت في التقدير والتحليل والرصد والمتابعة، واحتمالات الاستمرار في طريق المجازفة هذا تتجاوز موضوع التفريط بالموقع الاستراتيجي التركي المتميز بين آسيا وأوروبا، والدور المتوازن بين الولايات المتحدة وروسيا، وقد تتدهور الأمور إلى توتر تركي خليجي متزايد يطيح بكل ما بني من فرص في العقد الأخير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة