العثمانية الجديدة، بتحالفاتها العلنية والخفية مع الفاشلين تاريخيا وفكريا وسياسيا، تبدو وكأنها في لعبة سيرك استعراضية
ملايين من العرب جذبتهم شاشات التلفزة وهي تعرض مسلسلات (ليالي الحلمية) و(رأفت الهجان) و(باب الحارة) الشامية.. قبل أن تتراجع هذه القوة العربية الناعمة لتصبح قوة هشة لا لون لها ولا طعم فنيا.
العثمانية الجديدة، بتحالفاتها العلنية والخفية مع الفاشلين تاريخياً وفكرياً وسياسياً، وبقوتها الناعمة التي ترشح كذباً وتلفيقاً.. تبدو وكأنها في لعبة سيرك استعراضية، تستجدي فيها تصفيق الجمهور العربي
ويبدو أن هذا التراجع الفني كان مصاحباً لانكسارات سياسية، وعفن في الأذواق، وتراجع في أنساق القيم الجميلة، لصالح القبح والضحك المر والمراهقة السياسية.
في غياب المشروع الثقافي الوطني/القومي، على المستوى العربي، خلال العقدين الأخيرين -على الأقل - تقدمت تركيا لتملأ هذا الفراغ، بمشروع دراما ثقافي مؤثر وفاعل ومدروس.
تقدمت تركيا بما لديها من شغف بالتاريخ، وبالدور الطموح المعاصر في الجغرافيا السياسية والثقافية، لتسحب من التداول الصورة النمطية للتركي الغليظ والمترهل، والسجَّان، والمدمن على (الشيشة) والراقصات.. إلخ، وتقدم الشخصية التركية الجديدة كشخصية رومانسية حالمة ومشاعر فياضة، وجمال فتّان، وطبيعة جغرافية ساحرة وقصص حب وغرام وتقنيات فنية متميزة.
نتذكر مسلسلات (مهند ونور) و(حريم السلطان) و(العشق الأسود) وغيرها، وكيف قُدمت تركيا فيها، إلى درجة أن اسم (مهند)، دخل قائمة وسجلات أسماء المواليد الجدد في عالمنا العربي، ومنحت الثقافة التركية نفوذاً أكبر، وقدمت تركيا الجديدة أو العثمانيين الجدد بوجه حسن وجميل وعصري ونموذجاً لإسلام معتدل وحداثي.
وارتفعت نسبة مشاهدة المسلسلات التركية، وتضاعف نشاط ونمو قطاع الدراما التركية، واستخدم النظام الحاكم في تركيا هذه الدراما والسينما لخدمة وجهة نظره في معاركه الداخلية، وفي سعيه لدور مركزي في إقليم الشرق الأوسط.
في المسلسل التركي الطويل (قيامة أرطغرل) يبدو استدعاء التراث العثماني بشكل ساطع، بهدف بناء القوة الناعمة للمشروع العثماني الجديد، وترويج صورته وأهدافه السياسية، وكجزء من سياسة تركيا الخارجية.
وهذا المسلسل من أضخم أعمال الدراما التركية، ويحكي قصة قبيلة تركمانية في القرن الثالث عشر، هاجرت من وسط آسيا حتى استقرت بالقرب من القسطنطينية، مروراً بحلب وأنطاكيا والأناضول، وقادها زعيمها (أرطغرل) الذي أنجب عثمان، مؤسس الدولة العثمانية، وقد عانت هذه القبيلة، كما يبين المسلسل، من مكائد ونزاعات داخلية، وحروب مع قوى شرسة من مغول وبيزنطيين.
ويقدم المسلسل الزعيم القبلي (أرطغرل) كمحارب شجاع، ومسلم تقي، انتصر على أعداء الداخل والخارج، وهذا هو مربط الفرس في هذا المسلسل، أي لحظة الاستيقاظ أو القيامة، وتشبيه وضع القبيلة قبل (أرطغرل) مثل وضع تركيا قبل مجيء (أردوغان).. وهذه هي الرسالة السياسية الأولى.
في المسلسل المذكور الكثير من الخيال والقليل من الصدقية العلمية في رواية التاريخ، فضلاً عن ضعف في امتلاك مقاييس فنية وجمالية، وشطط في استثمار الصوفي ابن عربي.
من مقاصد المسلسل تضخيم الذات العثمانية، وبناء هوية عثمانية جديدة، وإشباع التطلع إلى تركيا حديثة وقوية، كرمز في العالم الإسلامي، وإطفاء الضوء عن مراكز الحضارة الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة والأندلس، وكلها رسائل يبثها هذا المسلسل الذي يشاهده مئات الملايين، مدبلجاً بالعربية وبغيرها من اللغات.
مفهوم القوة الناعمة يتجلى بأوضح أشكاله وأهدافه في نموذج توظيف الدراما التركية التاريخية والرومانسية، بما يخدم السياسة التركية المعاصرة، ومن خلال تصديرها بشكل مؤثر وجذاب لدعم الانتشار الناعم لها عربياً ودولياً، وتعبئة الناس للالتفاف حول التراث العثماني، وإعادة إنتاجه جميلاً وشجاعاً إلى الأذهان العربية، التي تعاني في هذه الأزمنة الضعف وتسلط الأعداء.
تركيا العثمانية الجديدة تسعى من خلال قوتها الناعمة لتصبح مركزاً للإقليم. وليس مجرد جسر بين الشرق والغرب، أو بين أوروبا والعالم الإسلامي.. من خلال أدوات الإقناع والانطباع والانجذاب، وليس الإرغام والتهديد، ومن خلال هذه المسلسلات ربحت تركيا -تجارة وسياحة ودخلاً مادياً- وصنعت صورة مغايرة أكثر جاذبية.
قبل نحو ثلاث سنوات أطلق (أردوغان) دعوة لإطلاق الشوارب بين صفوف حزبه وحكومته، وقال: (تركي من دون شارب كمنزل من دون شرفة)، كما أطلق مسؤولون اللحية بجانب الشارب لتأكيد الصبغة العثمانية.
الشوارب العثمانية الجديدة هي استكمال تجميلي لتغطية قبح ما في الماضي العثماني، وتحويل القتلة إلى أبطال، وإلى أشباه (روبين هود) المنقذ للمظلومين والمحسن إلى الضعفاء والبائسين.
إن تزوير التاريخ من خلال سرديات ملفقة، واختلاق تاريخ آخر للجنس التركي، ولزعماء قبائل تركية رعوية وعابرة للحدود في القرون الوسطى، لا يصنع مستقبلاً للسلطان العثماني المغرور الجديد.. لكن التزوير أو التلفيق قد يخدع بعض الناس لبعض الوقت، لكنه لن يخدع كل الناس كل الوقت.
العثمانية الجديدة، بتحالفاتها العلنية والخفية مع الفاشلين تاريخياً وفكرياً وسياسياً، وبقوتها الناعمة التي ترشح كذباً وتلفيقاً.. تبدو وكأنها في لعبة سيرك استعراضية، تستجدي فيها تصفيق الجمهور العربي، وتكون بطريقة ساذجة، ولا يزال وجه السلطان العثماني القديم المختلف والجديد المختال قبيحاً، ومشروعه الشرق أوسطي أكثر قبحاً وفجاجة.
نقلاً عن " الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة