ذكرى الانقلاب المزعوم.. احتفالات بتكريس السلطوية "2-2"
أردوغان استغل الانقلاب المزعوم وزاد من صلاحياته على حساب كامل مؤسسات البلاد
تعيش تركيا منذ الانقلاب المزعوم في 15 يوليو/تموز 2016 سلسلة من التوترات السياسية التي جعلت حالة عدم الاستقرار هي أهم ملمح للوضع بالداخل، خاصة في ضوء غياب الأمن وتراجع أداء الاقتصاد التركي والعنف الداخلي.
وعلى الرغم من الإجراءات الاستثنائية التي مكنت الرئيس التركي من الإمساك بمفاصل البلاد عشية الانقلاب، إلا أنه أخفق في تحقيق توافق سياسي داخلي، أو إنجاز تنمية اقتصادية تساعد على استقرار نسبي في البلاد؛ حيث سيطر حزب العدالة والتنمية الحاكم على مجمل المسرح السياسي، دون إتاحة فرصة للتعددية السياسية.
لقد أنتج الانقلاب المزعوم أزمات ممتدة، من المشكوك فيه أن يتم تطويقها عبر المبادرات الوهمية والأحادية التي يطرحها الرئيس التركي، وذلك بالنظر لمحاولاته عرقلة رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بسحب جانب من صلاحياته، فضلاً عن استمرار الانخراط السلبي في أزمات الإقليم.
وإذا كان الانقلاب المزعوم حقق لأردوغان مكاسب ظرفية، فالأرجح أن التداعيات السلبية على تركيا ونظام الحكم كانت الأكثر إيلاماً، يمكن بيانها على النحو الآتي:
تراجع الصورة الذهنية: أدت الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها تركيا منذ محاولة الانقلاب المزعوم إلى تراجع صورتها في الوعي الجمعي الدولي، ففي تقريرها السنوي الصادر في مايو/أيار الماضي، قالت المفوضية الأوروبية عن التقدم الذي أحرزته أنقرة نحو الانضمام الاتحاد الأوروبي "تركيا مستمرة في التحرك بعيداً عن الاتحاد الأوروبي".
وأضافت المفوضية: أن "المفاوضات.. وصلت فعلياً إلى طريق مسدود".
وفي ظل ما تعتبره حكومات الاتحاد الأوروبي انزلاقاً إلى الحكم الاستبدادي في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، واجهت أنقرة منذ محاولة الانقلاب المزعومة تقارير قاسية من المفوضية، لكن لم يكن أي منها بقسوة تقرير المفوضية الصادر في مايو/أيار الماضي.
تآكل القدرة الاقتصادية: تراجع الاقتصاد التركي بشكل ملحوظ، وأدى ذلك إلى إثارة شكوك ومخاوف المستثمرين الأجانب، وهو ما أدخل الاقتصاد التركي مرحلة الغموض، بسبب سعي أردوغان نحو إخضاع المؤسسات الاقتصادية ومن بينها البنك المركزي لسلطته، خاصة مع انتقاداته المستمرة لإصرار البنك على رفع أسعار الفائدة.
ويتصاعد الصراع بين أردوغان والبنك المركزي، في ظل إصرار الأول على التدخل في رسم السياسة النقدية، وكشف عن ذلك قيام أردوغان في 6 يوليو/حزيران الجاري، بعزل محافظ البنك المركزي، مراد تشتين قايا، لرفضه خفض سعر الفائدة، وعد اقتناعه بتوجهات الرئيس ووزير ماليته وصهره بيرات البيراق.
ويعاني الاقتصاد التركي إلى جانب انخفاض قيمة الليرة بنحو 30% من قيمتها، ووصول التضخم إلى نحو 19%، من زيادة مخاطر الدين الخارجي، خاصة مع بلوغها مستوى قياسياً قدره 453.2 مليار دولار بنهاية عام 2017 (ما يوازي 53.3% من الناتج المحلي) مقابل 408,195 مليار دولار في عام 2016 (ما يوازي 47.2% من الناتج المحلي).
ونتيجة لهذه الأوضاع، اتجهت وكالة "موديز" إلى وضع تصنيف تركيا تحت المراقبة، بعد أن خفضت تصنيفها، في مؤشر على عدم نجاح السياسات الاقتصادية في معالجة الأزمة الاقتصادية.
اتساع رقعة الاستقطاب السياسي: كرس الانقلاب المزعوم حدة الانقسام المجتمعي، وأعاد إلى الأذهان الصراع العلماني- الديني، ودخلت تركيا طوال السنوات الثلاث التي خلت في جدل عقيم حول الهوية، خصوصاً بعد تصاعد الجدل بشأن عملية واسعة لتغيير مناهج التعليم الابتدائي في تركيا، تضمنت تقليص الحديث عن سيرة مصطفى كامل أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة.
كما تصاعدت فرص الانقسام في ظل سعى الرئيس التركي إلى هندسة" كامل الحياة العامة والخيارات الاستراتيجية التركية كما يرغب، مستنداً في ذلك إلى صلاحيات النظام الرئاسي شبه المطلق الذي يحميه من جميع أشكال الفروض والحساسيات التي كان يوجبها النِظام البرلماني التركي التقليدي السابق.
تراجع صلاحية المؤسسات التركية: أسهم الانقلاب المزعوم في زيادة صلاحية الرئيس التركي على حساب كامل مؤسسات الدولة التي كانت تحافظ على ثبات "المبادئ العليا" للدولة التركية، وعلى رأسها الجيش والمؤسسة القضائية وتجمعات نخب رجال الأعمال.
تعميق الانقسام داخل العدالة والتنمية: تصاعدت الانشقاقات داخل حزب العدالة والتنمية بفعل رفض قطاعات معتبرة داخل الحزب، خاصة من الآباء المؤسسين للحزب مثل الرئيس السابق عبدالله جول ورئيس الوزراء السابق ومنظر التجربة التركية أحمد داود أوغلو، سياسات الحزب وممارساته الاستثنائية عشية الانقلاب الفاشل.
ومن ثم فقد تكون سياسات الحزب عشية الانقلاب المزعوم مؤشراً كبيراً على أن عهد الصعود لحزب العدالة والتنمية في السلطة قد بلغ الحد الأقصى، وبدأت مرحلة الضعف التدريجي ونهاية مرحلة انفراد الحزب بالحكم، باعتبار صعوبة قدرة الحزب على الرصيد المتآكل في هياكله وفى صفوف الناخبين.
الانخراط في خلافات جديدة: ويأتي في مقدمتها التصعيد المتواصل مع الاتحاد الأوروبي، الذي وبخ أنقرة على النهج العقابي الذي تمارسه حكومة تركيا منذ الانقلاب المزعوم. وزادت المخاوف الأوروبية بفعل سلوك أنقرة في القمع وانتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة الحريات العامة.
ضعف مناعة التجربة الديمقراطية: كشف الانقلاب عن أن خللاً ديمقراطياً جسيماً يعتري النظام التركي، فعلى سبيل المثال، فقد البرلمان بعد تحول البلاد لجهة النظام الرئاسي سلطاته الواسعة وتشكيلته المتنوعة، وأصبحت ممارسة سلطاته غير فعالة في مواجهة الحكومات سواء في مجال منح وحجب الثقة أو في مجال استخدام الوسائل الرقابية الواردة في الدستور.
وفي سياق التحايل على دور البرلمان عشية إلغاء العمل بقانون الطوارئ في عام 2018، استحداث العدالة والتنمية وشريكه حزب الحركة القومية قواعد أمنية لضمان استمرار القبضة الأمنية وملاحقة المعارضين والصحفيين، وذلك بمنح سلطة أوسع لحكام الأقاليم على البرلمان.
ذلك تعرضت السلطة القضائية لأزمة غير مسبوقة أطاحت بدورها الوظيفي في حماية المسار الديمقراطي، فثمة خلل ديمقراطي جسيم شاب تنظيم السلطة القضائية، سواء من حيث استقلالها أو ممارستها لوظيفتها الرقابية على الدستورية. كما أصبح لرئيس الجمهورية الحق في تعيين 7 من أعضاء مجلس القضاء الأعلى، إضافة إلى نزع اختصاص المحكمة الدستورية بالنظر في دستورية المراسيم التي لها قوة القانون الصادرة أثناء فترات الطوارئ.
تدمير بنية النظام الأسرى: أسهمت سلباً عمليات الاعتقال العشوائي عشية الانقلاب المزعوم حتى اليوم لعشرات آلاف الأشخاص في تدمير عائلات لا حصر لها، مما أدى إلى مزيد من حالات الطلاق وزيادة أعمال العنف ضد المرأة والوصم الاجتماعي. ووفقاً لمعهد الإحصاء التركي، فإن حالات الطلاق في تركيا قد ازدادت بنسبة 10.9% من عام 2017 إلى عام 2018.
وعلى الرغم من أن تغيير المعايير الثقافية والصعوبات الاقتصادية لها دور مهم في ارتفاع معدلات الطلاق، فإن المشكلات السياسية تؤثر أيضاً على العائلات.
ووفقاً لتقرير صدر في مارس/آذار 2019، أعده نائب حزب الشعوب الديمقراطي المعارض عمر فاروق جيرغيرلي أوغلو، فإن 48% من الذين أقدموا على الطلاق بعد الانقلاب المزعوم، أكدوا أن عائلاتهم انهارت بعد أن فقد أحد الشركاء على الأقل وظيفته من خلال مراسيم صدرت بموجب قانون الطوارئ.
كما أن حوالي 38% من نحو 130 ألف شخص تم إقالتهم دون الإجراءات المعتادة من وظائف في القطاع العام، في ظل حكم الطوارئ أفادوا بأن زيجاتهم وعائلات قد تضررت بشدة.
الخلاصة أنه حين حدثت المحاولة الانقلابية في 15 يوليو 2016، نجح الرئيس التركي في حشد الإجماع الحزبي لرفض الانقلاب، ونجح في تمهيد أرضية لتوافق سياسي عريض ينهي حقبة الاستقطاب السابقة، إلا أن أردوغان، بعد مرور 3 سنوات على الانقلاب المزعوم، لا يزال يعتبر أن تطهير البلاد من الإرهابيين كما يعتقد (جماعة خدمة، وحزب العمال الكردستاني، وحزب الشعوب، وحتى أكرم أوغلو محافظ بلدية إسطنبول)، معركة وجودية ليس لحماية الحياة السياسية كما يدعي، وإنما فقط لترسيخ سلطويته.