توتر سياسي دبلوماسي اقتصادي جديد في العلاقات التركية الألمانية التي تسير منذ عامين فوق مستنقعات من الرمال المتحركة
وقف رئيس الوزراء الألماني السابق غرهارد شرويدر عام 2004 في احتفال تسليم رجب طيب أردوغان جائزة الرجل الإصلاحي و" أوروبي العام" ليقول بصوت مرتفع: "كل ما تفعلونه في ملفات الإصلاح الديمقراطي وتركيز الحريات وحقوق الإنسان في تركيا هو ليس من أجل أوروبا أو من أجل تسريع قبولكم في الاتحاد بل من أجل بلادكم أنتم أولاً".
اليوم وبعد مرور 13 عاماً على هذا الكلام نرى وزير الخارجية الألماني زيغمار غبريال يقف أمام المنبر نفسه، ليهدد تركيا بسبب مواقفها وسياساتها في مسائل الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان وتحميل القيادة السياسية في هذا البلد مسؤولية توتير العلاقات مع حليف الحرب العالمية الأولى، ويقول "أنقرة هي في مواجهة العالم بأكمله، صبرنا كثيرا عليكم ولم يعد بمقدورنا مواصلة علاقاتنا بهذا الشكل".
غبريال يعلن بأسلوب مباشر ودون لف ودوران "ألمانيا تواجه صعوبات في التكهن حول قرارات الرئيس أردوغان، نحتاج أن نوجه سياساتنا حيال تركيا إلى مسار جديد.. لا يمكن أن نستمر كما فعلنا حتى الآن. نحتاج أن نكون أوضح عما كنا حتى تفهم القيادات التركية أن مثل هذه السياسات لن تمر دون عواقب".
في الوقت الذي كان الجميع يتوقع بروز مناخ جديد أكثر إيجابية فيما يتعلق بالعلاقات بين تركيا وألمانيا وكذلك بين أنقرة والاتحاد الأوروبي بعد لقاءات الرئيس رجب طيب أردوغان بالزعماء الأوروبيين في قمة العشرين التي عقدت في ألمانيا، وغزله السياسي مع المستشارة أنجيلا ميركل ، يدخل زيغمار غبريال على الخط ليتوعد ويهدد بأن برلين تعد لتغيير سياساتها إزاء تركيا.
التقارب التركي الألماني في موضوع اتفاقية اللجوء الموقعة قبل عامين ووعود فتح الباب أمام تركيا أوروبياً بدعم برلين الجالسة في موقع القيادة اليوم، تراجع سريعاً وها هي الأخيرة تفعل العكس وتصعد ضد أنقرة في ملفات العلاقات الثنائية السياسية والتجارية والعسكرية ومسائل الأقليات التركية من أرمن وأكراد وعلويين وموضوع جماعة فتح الله غولن، التي فتحت الحكومة الألمانية أمامها أبواب اللجوء وتوفير الحماية السياسية والقانونية.
الأصعب هو ربما إعلان دول الاتحاد الأوروبي قبل أيام انحيازها الواضح إلى الجانب الألماني في المواجهة مع تركيا ومطالبة الأخيرة الالتزام بمعايير واتفاقيات حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية الموقعة والمتفق عليها أوروبيا وتركيا. توتر سياسي دبلوماسي اقتصادي جديد في العلاقات التي تسير منذ عامين فوق مستنقعات من الرمال المتحركة بسبب تباعد وتصعيد في ملفات العلاقات الثنائية والإقليمية والأوروبية.
من فجّر الأزمة هذه المرة ولماذا فعل ذلك؟ وما هي أسباب توسيع رقعة المواجهات على هذا النحو؟
لماذا قررت برلين نقل المواجهة إلى الجبهات الاقتصادية والتعاون الاستراتيجي العسكري والأمني مع تركيا؟
وكيف ستتعامل المجموعة الأوروبية مع الأزمة في المرحلة المقبلة في حال تزايد التصعيد وتفاعل؟
ثم كيف سيكون قرار دول حلف شمال الأطلسي وسط تصاعد التوتر بين البلدين؟
أنقرة تقول إن ألمانيا أفضل من يعلم أنّ الأتراك ودولهم عبر التاريخ لم ينحنوا أمام أي تهديد أو ابتزاز، وبرلين ترد "لا يمكن أن تستمر علاقاتنا مع تركيا على هذا النحو. نريد تحسين العلاقات لكن رقصة التانغو تتطلب راقصين اثنين".
في العلن سبب الانفجار الأخير هو قرار القضاء التركي باعتقال وسجن مواطنين ألمانيين أحدهما ناشط اجتماعي يدعى بيتر ستيودتنر وآخر هو دنيز يوجال إعلامي تركي يحمل الجنسية الألمانية بتهم "تقديم الدعم لمنظمة إرهابية مسلحة"، لكن ارتدادات شظايا القذائف التركية الألمانية كان أبعد من ذلك وبكثير . هناك عملية تصفية حسابات سياسية لم تكتمل بسبب أكثر من توتر وتصعيد وتهم متبادلة لم تحسم نتائجها أوصلت التوتر إلى نقطة اتهام أنقرة لبرلين بتأجيج الصوت النازي مجدداً، ورد برلين أنكم ستدفعون ثمن ما فعلتموه وقلتموه في الأشهر الأخيرة إبان فترة الاستفتاء على التعديلات الدستورية التركية في إبريل/ نيسان المنصرم وحتى اليوم.
إذا كان لابد من نقطة انطلاق حول اندلاع المواجهات فيمكننا العودة إلى ما جرى قبل أسابيع حيث كنا نتحدث عن الفشل الذريع الذي مني به وزير الخارجية الألماني بعد عودته بيد فارغة من أنقرة في موضوع إقناعها بتسهيل زيارة الوفد الألماني البرلماني لجنود بلادهم في قاعدة "إنجرليك " التركية. ورجع غبريال يومها يعلن أن ما فعله الأتراك لن يمر أو ينتهي بقرار سحب الوحدات الألمانية من القاعدة التركية وكلام أردوغان يصدح في أذنيه "مع السلامة".
أين وكيف ردت ألمانيا؟ عرقلت أولا مسار العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي. ثم عملت على إضعاف النفوذ والقوة التركية في حلف شمال الأطلسي بقطع الطريق على الرغبة التركية في استضافة قمة الحلف للعام المقبل في اسطنبول. وبعدها أعلنت دون تردد عن دورها في تعطيل تنفيذ الشق الأوروبي في اتفاقية اللجوء الموقعة بين الطرفين، وعرقلت إرسال المساعدات المالية الموعودة أوروبياً إلى اللاجئين السوريين في تركيا. ليكون آخرها صب الزيت فوق ملفات الداخل التركي السياسية والأمنية والاقتصادية خصوصاً ما يتعلق منها بالعلاقات التركية الألمانية.
برلين تتحدث علنا اليوم عن تجميد مشروعات تسليح مشتركة ووقف استثماراتها في تركيا، وتبلغ مواطنيها بتوخي الحذر عند السفر إلى المدن التركية، وتلوح بحزمة عقوبات غير مسبوقة ضد أنقرة تطال مجالات السياحة والتصدير والاستثمارات المشتركة. هذا إلى جانب اتهامات وكالة المخابرات الداخلية الألمانية للمخابرات التركية بتنفيذ عمليات سرية واسعة في ألمانيا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة شملت استهدف أتراك معارضين يقيمون على أراضيها.
التوتر التركي الألماني هذه المرة يحمل طابعاً مغايراً كونه يشرك الرأي العام والإعلام ومنظمات المجتمع المدني في البلدين في صب الزيت فوق نار الأزمة. التهدئة حتى ولو تمت فإن ما بعد إعلان النتائج الانتخابية في ألمانيا في الخريف المقبل ستساعدنا أكثر على تحديد معالم المرحلة المقبلة.
رد أنقرة على التصعيد الألماني لم يتأخر أيضاً، فوزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو اتهم نظيره الألماني بالتمادي في تحديه لبلاده لدرجة أنه حدد مهلة لتنفيذ الشروط والمطالب الألمانية وعلى رأسها الإفراج عن المعتقلين الألمانيين وطلب تجاهل مواقف القضاء التركي، بأسلوب بعيد عن اللباقة الدبلوماسية.
أنقرة واستكمالاً لتصعيدها قالت "ألمانيا باتت الدولة الرئيسة التي تحتضن جميع الإرهابيين الذين يعملون ضد تركيا، ويواصلون أنشطتهم فيها، على غرار إرهابيي منظمتي "بي كا كا وغولن" . ثم جاء تحذير المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن "نعتقد أن هذه التصريحات وبشكل تهديدي استفزازي لتركيا صدرت لاستثمارها سياسياً على الصعيد الداخلي، وهي مرتبطة بالانتخابات التي تقبل عليها ألمانيا في سبتمبر / ايلول القادم".
أنقرة تقول إن الهاربين من العدالة يختارون ألمانيا كبلد أول يقصدونها، لكنها تعرف جيداً أنها تغامر بحصة 10 بالمئة من مجمل القطاع السياحي الذي يملأه الألمان سنوياً والذي تراجع بشكل ملموس في الأشهر الأخيرة. وإن ألمانيا التي تعتبر من أهم موردي المنتجات التركية منحت تركيا قرابة 7000 شركة ألمانية تعمل في تركيا وتستوعب ما لا يقل عن 60 ألف عامل. وإن التلويح بإمكانية سحب الرأسمال الألماني من تركيا بسبب عدم شعوره بالأمان سيكون ورقة تهديد أخرى موجودة على الطاولة.
في اللامعلن هناك حقيقة انهماك أنقرة في مناقشة كثير من الملفات الداخلية السياسية والأمنية حيث إن القيادة السياسية التي لم تستفق بعد من صدمة ارتدادات المحاولة الانقلابية لتجد نفسها أمام مأزق جديد في العلاقات مع ألمانيا يرى فيه كثير من الأتراك خطة أعدّتها أنجيلا ميركل بحنكة لتضييق الخناق استراتيجياً وإقليمياً على تركيا فيما يصفها الصوت التركي المعارض بالسياسة الخارجية الفاشلة التي أوصلت الأمور إلى هذه الدرجة من التأزم والتعقيد مع الشريك الألماني.
وهناك حقيقة أخرى هي تزامن التحول الكبير في السياسة الألمانية تجاه تركيا مع إعلان موسكو وأنقرة التوصل لاتفاق نهائي حول تزويد أنقرة بنظام الدفاع الصاروخي إس 400، دفع الكثيرين للربط بين الأمرين واعتبار ذلك بداية خلافات أكبر بكثير بين تركيا والدول الأوروبية و"الناتو» بشكل عام التي ترفض الخطوة التركية وتعاونها المتزايد مع روسيا بشكل مطلق، وأنّ الرد التركي الاستراتيجي الأخير عبر التحوّل نحو روسيا هو الرياح التي ستسبق العاصفة في مسار العلاقات التركية ـ الأوروبية كما يقال.
ثم هناك مسألة أن تركيا فتحت الأبواب أمام "التورنادو" الألمانية، لتتحرك في أجواء المنطقة، لرصد تحركات مجموعات "داعش" في سوريا والعراق، وتقاسم المعلومات مع قوات التحالف الدولي، لكن المشكلة أن القوات الألمانية رفضت تقاسم ما جمعته من معلوماتٍ حول تنقلات وحدات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، بذريعة أنها لا توافق على تصنيف الحزب في إطار المجموعات الإرهابية كما تقول تركيا.
أتراك يردّدون أنّ ألمانيا منزعجة من تمدّد تركيا، وتحديداً قوة الرئيس أردوغان العابرة للحدود والقادرة على الوصول إلى داخل المدن الألمانية عبر أكثر من 3 ملايين تركي يعيشون هناك وبإمكانهم التأثير في مسار القرارات السياسية والحزبية والانتخابية. وأن قرار البرلمان الألماني العام المنصرم المصادقة بأغلبية ساحقة، على مشروع قرار يعتبر المزاعم الأرمينية بخصوص أحداث عام 1915 "إبادة جماعية" مسائل لا تنسى في أسباب التوتر أيضاً.
اقتناع تركي بأنّ ميركل تريد التخلص من كلّ التفاهمات التي أنجزتها مع أردوغان قبل أشهر، لأنها شعرت بأنّ ارتداداتها السياسية والحزبية عليها مكلفة. الأتراك يرددون أنّ برلين هي التي وقفت دائماً في وجه تسريع مسار العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي، وأنّ التقارب الأخير لم يكن سوى مناورة سياسية لكسب الوقت والفرص.
قناعة تركية أخرى هي أن ألمانيا التي نجحت في إخراج إنجلترا من الاتحاد الأوروبي تريد هذه المرة قطع الطريق على العضوية التركية، للتفرد بزعامة المجموعة وتحديد سياساتها في الاتجاه الذي تريده هي.
ينقل عن إحسان صبري تشغلايان غيل أحد ألمع وزراء الخارجية في تاريخ تركيا قوله إن العامل الأول في تحقيق النجاح، هو معالجة المسألة قبل أن تتحول إلى مشكلة. والواضح هنا أن الطرفين فاتهما هذا المبدأ. أنقرة تدرك جيداً أن أقوى حليف لها في الغرب بعد الولايات المتحدة هو ألمانيا وهي تعرف أيضاً أن علاقتها مع الاتحاد الأوروبي باتت على كف عفريت وهي محمية فقط بـ"شعرة معاوية"، الألمانية ووزير المالية الألماني الذي يقارن الوضع في تركيا اليوم بحقبة النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية قبل الوحدة الألمانية عام 1989.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة