ليس من قبيل المبالغة القول إن العالم المعاصر لم يشهد رئيس دولة يدير علاقاته الخارجية من كهف التاريخ، وظلاماته مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
ليس من قبيل المبالغة القول إن العالم المعاصر لم يشهد رئيس دولة يدير علاقاته الخارجية من كهف التاريخ، وظلاماته مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فقد وصل به الجنون بنسخة متوهمة من تاريخ قبيلته المتوحشة أن قام بتغيير شعار وزارة الخارجية التاريخية؛ بصورة لو أدركتها الدول المعنية لقطعت علاقاتها بتركيا؛ ودخلت معها في حالة استعداد للمواجهة.
ففي منتصف ديسمبر 2018 غيرت وزارة الخارجية التركية شعارها القديم الذي كان يحتوي على نجمتين إلى شعار جديد، يضم 16 نجمة، تشير كل واحدة منها إلى دولة أسسها الأتراك عبر التاريخ، والتصميم الجديد لشعار الخارجية التركية، يأتي ذلك ضمن خطة تتناسب مع شعار رئاسة الجمهورية التركية، عقب الانتقال إلى النظام الرئاسي، حيث يتوسط العلم التركي الشعار الجديد، وتحيط به عبارة الجمهورية التركية، وزارة الخارجية، و16 نجمة حمراء، في إطار الشعار بشكل دائري.
التاريخ مستودع كبير للدول والمجتمعات، جاهل من يظن أنه يستطيع أن يوظف أحد جوانبه، أو يفتح أحد ملفاته؛ دون أن تتداعى الجوانب الأخرى، والملفات الأخرى التي يتمنى أنها لم تكن موجودة أصلا.. التاريخ يرفعك، ويعظم مجدك في بعض جوانبه، وينزل بك إلى القاع ويحطم أحلامك في بعضها الآخر
وتمثل النجوم الستة عشرة في شعار وزارة الخارجية التركية كل دولة أسسها الأتراك عبر التاريخ وهي: الدولة العثمانية، والدولة الخاقانية، والدولة التيمورية، والدولة السلجوقية، ودولة الآق هون، ودولة الهون في أوروبا، والهون الغربية، وإمبراطورية الهون العظمى التي حكمت آسيا وأوروبا، وإمبراطورية الهند البابرية، ودولة (خاقانية) الخزر، ودولة (خاقانية) الأيغور، ودولة (خاقانية) الآوار، والدولة الخوارزمية، والدولة الغزنوية، ودولة القبيلة الذهبية، ودولة الخانات السود. وهذه الدول تمتد من الصين إلى أوروبا مرورا بجميع جمهوريات آسيا الوسطى والهند وباكستان وأفغانستان وإيران والعراق والشام وجنوب روسيا.
وكأن هدف وزارة الخارجية التركية العمل على استعادة الحكم التركي لهذه الدول، أو إعادة إحياء هذه الدول على أنقاض الدول الموجودة حالياً التي تتعامل معها وزارة الخارجية التركية على أنها دول ذات سيادة، وأعضاء في الأمم المتحدة.. فأي جنون بالتاريخ، وشغف باستعادته أكثر من هذا؟
لا يبالغ المرء حين يقول إن الرئيس التركي أردوغان يعيش في التاريخ، ويغيب عن الواقع، ويفعل كل ما يستطيع من أجل أن يعيد ما يظن أنه أمجاد العرق التركي، والعثمانيين خاصة، وفي سبيل تحقيق ذلك وظف كل مقدرات الدولة التركية، ابتداء من الدراما، والمسلسلات التي تعيد تصوير التاريخ على مقاس أردوغان، وبما يريد أردوغان أن يفعل، والمتأمل في كل أفعال أرطغرل، أو عثمان يجد أنهما صورة تاريخية لأردوغان، تبرر أفعال أردوغان أو سياسات أردوغان، أو أن أردوغان هو النسخة المعاصرة منهما. لذلك اشتعلت النار في كل أزلام وغلمان أردوغان وجواريه من العرب حين تمت إذاعة مسلسل "ممالك النار" الذي يكشف فصلا صغيرا من فصول القبح التركي على مر التاريخ.
حيثما يذهب أردوغان، وحكومته يبحثون عن مسجد عثماني أو سوق عثماني، أو حمام عثماني في أي دولة مسلمة، أو غيرة مسلمة، ويسخرون السياسة الخارجية التركية لترميم ذلك الأثر، أو يوظفون أوقاف المسلمين لبناء مساجد على الطراز العثماني في دول لم تعرف العثمانيين، ولم تراهم على مر التاريخ مثل دولة غانا في أفريقيا.
لقد أصبحت المساجد والعمارة وسيلة لاستعادة التاريخ العثماني وتوسيعه؛ وذلك لتحويله إلى قوة ناعمة للدولة التركية؛ يستطيع أردوغان أن يعبر من خلالها إلى حلمه في إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية بحلول مئة عام على سقوطها 2023.
ولكن التاريخ حكيم عظيم، لا يستطيع بائع البطيخ و"السوبيا" خريج ثانوية الخطباء أردوغان؛ الذي لم يتلقَ تعليما جامعيا أن يعبث به ويوظفه، فقد استدار التاريخ ليري أردوغان وغلمانه وجواريه من العرب الوجه الآخر؛ فتحركت القوى الحية في العالم الغربي لتذكِّر أردوغان، ودولته بفظائع العثمانيين الوحشية ضد المسالمين من الأرمن، الذين تم ذبحهم وحرقهم أطفالا وشيوخا ونساء؛ لا لشيء إلا لأنهم مسيحيون أرثوذكس، بعقلية داعش الوحشية.
لقد فتح التاريخ ملف الدولة العثمانية ولن يغلق قريبا، وسيأتي بالنقمات، والويلات على الدولة التركية؛ فبعد اعتراف الكونجرس الأمريكي، والجمعية الوطنية الفرنسية، وهم السلطة التشريعية في أمريكا وفرنسا بمسؤولية الدولة العثمانية عن مذابح الأرمن، ستكون هذه هي البداية، وستأتي دول أخرى لتعترف بهذه الفظائع، وستظهر فظائع أخرى في البلقان واليونان والعالم العربي والقوقاز والقرم.. إلخ.
وهذا الملف التاريخي حين يتم فتحه من خلال البرلمانات سيتلو ذلك دعاوى قضائية أمام محاكم هذه الدول؛ تطالب بتعويضات ضخمة، سوف يرفعها أحفاد المتضررين ودولهم، وجمعياتهم، وسوف تدفع الخزانة التركية التي أوشكت على الإفلاس بفضل مغامرات أردوغان، وجهل صهره مليارات الدولارات تعويضات ستكون لها بداية، ولن يعرف أحد لها نهاية، تماما مثلما حدث مع تعويضات محارق النازي.
التاريخ مستودع كبير للدول والمجتمعات، جاهل من يظن أنه يستطيع أن يوظف أحد جوانبه، أو يفتح أحد ملفاته؛ دون أن تتداعى الجوانب الأخرى، والملفات الأخرى التي يتمنى أنها لم تكن موجودة أصلا.. التاريخ يرفعك، ويعظم مجدك في بعض جوانبه، وينزل بك إلى القاع ويحطم أحلامك في بعضها الآخر؛ فالخير كل الخير أن تعيش تركيا الحاضر، وتتخلص من أردوغان والتاريخ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة