ما تُريده تُركيا هو تغيير التركيبة البشرية والهُوياتية في مناطق الحدود، وأن يستمر نفوذ التنظيمات المؤيدة لها في محافظة إدلب.
على مدى السنوات الخمس الأخيرة، شنت تركيا عمليات عسكرية داخل أراضي الدولة السورية بمُعدل عملية واحدة كُل عامين فكانت الأولى درع الفرات في عام 2016 التي غزت فيها الدبابات التركية الأراضي السورية لأول مرة من عام 2011، فعملية غُصن الزيتون في 2018 التي هدفت إلى إنهاء وجود القوات الكُردية في مناطق الحدود بين البلدين التي انتهت باحتلال تركيا لعدد من المُدن في الشمال السوري، ثم عملية درع الربيع في مارس 2020 التي هدفت لوقف تقدُم الجيش السوري في مُحافظة إدلب وانتهت نهاية فاشلة وقبل الرئيس أردوغان الشروط الروسية لوقف القتال في القمة التي عُقدت بينهما يوم الخميس 5 مارس.
من الواضح أن الدور التركي في سوريا يُمثلُ - من وجه النظر التركية الرسمية - أحد تجليات توسع النفوذ التركي في منطقة الشرق الأوسط وهو دور ينبغي أن نضعه في سياق تطور العلاقات التركية السورية في القرن العشرين.
والمُتابع لتطور هذه العلاقات في القرن العشرين يستطيع أن يُميز بين ثلاث مراحل. امتدت المرحلة الأولى من عام 1923 وهو تاريخ إنشاء الجمهورية التركية إلى 1998 تاريخ توقيع اتفاقية أضنة بين البلدين.
واتسمت هذه المرحلة عموما بالصراع والتوتر حول قضايا الحدود، ولواء الإسكندرونة، والمياه، والأكراد. وفي الحقب الأخيرة من القرن العشرين، كانت أكثر القضايا اشتعالا هي موضوع الأكراد واتهام تركيا الحكومة السورية بدعم حزب العمال الكردستاني ومُساعدته في القيام بأعمال إرهابية في الداخل التركي. وجاءت الاتفاقية لتُنظم العلاقات بين البلدين والتعاون بينهما في مُكافحة الإرهاب.
أغلب الفصائل والتنظيمات العسكرية في سوريا هي خليط من الجماعات الدينية المتطرفة والحركات الإرهابية وفقا للقرارات الدولية وبعضها يتكون من مقاتلين مرتزقة ويؤكد هذا أن تركيا نقلت أعدادا منهم إلى ساحة قتال أخرى بعيدة عن سوريا وهي ليبيا
كانت الاتفاقية نقطة تحول في العلاقات السورية-التركية، وبدأت مرحلة من التعاون الوثيق بين البلدين استمرت حتى عام 2011 فتم إبرام عشرات الاتفاقيات في مُختلف المجالات حتى وصل الأمر إلى حد "التحالف الاستراتيجي". ثم عادت العلاقات إلى وتيرتها الصراعية بعد اندلاع المظاهرات والانتفاضة الشعبية في سوريا 2011.
وسرعان ما فتحت أنقرة أبوابها لفصائل المعارضة السورية لممارسة أنشطتها وتنظيم اجتماعاتها ووفرت لهم الدعم السياسي والإعلامي. وتصاعد التأييد التركي ليمتد إلى التزويد بالسلاح والخدمات اللوجستية وتوفير الممر الآمن عبر الحدود للانتقال إلى داخل سوريا والخروج منها، وامتد الأمر إلى دعم التنظيمات المُتطرفة الإرهابية كجبهة النصر وداعش، وصولا إلى انتهاك سيادة الدولة السورية بشكل صريح وغزو الجيش التركي أراضيها أكثر من مرة.
فماذا تريد تركيا؟ وما هي أهدافها في سوريا؟
هُناك إجابات مُتعددة. منها ما يُردده أردوغان والقادة الأتراك من أن تركيا تسعى لتأييد حق الشعب السوري في اختيار نظامه ودعم مطالبه والتعبير عنها بحُرية. وهو قول مردود عليه فأغلب الفصائل والتنظيمات العسكرية في سوريا هي خليط من الجماعات الدينية المتطرفة والحركات الإرهابية وفقا للقرارات الدولية وبعضها يتكون من مقاتلين مرتزقة ويؤكد هذا أن تركيا نقلت أعدادا منهم إلى ساحة قتال أخرى بعيدة عن سوريا وهي ليبيا.
أضف إلى ذلك أنه لا يُوجدُ في القانون الدولي وميثاق الأمم المُتحدة ما يُعطي لتُركيا الحق في تدخُل قواتها المُسلحة في أراضي دولة أُخرى بدون إذن أو طلب من سُلطات هذه الدولة. ومن ثَم، فإنه يُعد غزوا أو احتلالا.
وإذا نحينا جانبا هذا الادعاء التركي فإن المُحللين يطرحون إجابات أُخرى مثل أن تركيا تهدف إلى تأمين حدودها المشتركة مع سوريا من أنشطة حزب العمال الكردستاني الذي تعده تنظيما إرهابيا، أو أنها، باعتبارها قوة إقليمية، تريد أن تكون جُزءا من عملية التسوية السياسية بعد انتهاء الحرب في سوريا، أو أنها تستخدم اللاجئين السوريين الذين يصل عددهم إلى قرابة ثلاثة ملايين ونصف كورقة ضغط وابتزاز الدول الأوروبية للحصول على مزيد من الهبات والمُساعدات.
وأُريد أن أركز هُنا على بعد آخر وهو ما تقوم به تركيا في المناطق التي احتلتها وتُديرها مُباشرة في منطقة الحدود ثُم على موقفها في محافظة إدلب آخر معاقل المُعارضة والفصائل المُسلحة المُتطرفة في سوريا. أُركز هُنا على ما يحدث في منطقة الجزيرة السورية في شمال شرقي سوريا التي تقع بين نهري الفرات ودجلة وتشمل محافظة الحسكة بأكملها وأجزاء من محافظات دير الزور والرقة وهي مناطق يتركز فيها الأكراد السوريون خاصة في مُدن عين العرب كوباني وعفرين والقامشلي، وتجاور المناطق التي تعيش فيها أغلبية كردية في العراق وتركيا.
الذي حدث هو أنه خلال سنوات الحرب على داعش، ازدادت أسهم وحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية التي يُمثل الأكراد قوامها الرئيسي، فقد حاربت هذه القوات بشراسة وبطولة في معركة تحرير مدينة عين العرب (كوباني) من سيطرة داعش في 2014 وفي تحرير مدينة الرقة التي كان التنظيم أعلنها عاصمة له، في 2017.
ومع ازدياد الدور العسكري للقوات الكُردية واعتماد الولايات المُتحدة في الحرب البرية ضد داعش ورفع مُستوى تسليحها وتدريبها، تخوفت تركيا من أن يُشجع ذلك عناصر حزب العمال الكردستاني للقيام بأعمال عسكرية ضد السُلطات التركية خاصة أنها تعد القوات الكردية امتدادا لهذا الحزب.
وكان الحل التُركي هو احتلال مناطق الحدود على الجانب السوري والسيطرة عليها بدعوى إبعاد القوات الكُردية عنها، فقامت باحتلال عشرات المُدن والبلدات أهمها عفرين، وجرابلس، وأعزاز، وجنديرس، وراجو، وشيخ الحديد. ووقتذاك استخدم الإعلام التركي وسائل عثمانية قديمة لتبرير التدخل العسكري والإدارة التركية لهذه المُدن.
لم تقتصر السيطرة التركية على حُكم هذه المناطق بل شملت عملية "تتريك" تضمنت تغيير الكتب المدرسية وتدريس بعض المواد باللغة التركية، وإنشاء مدارس تقوم بالتدريس باللغة التركية فقط. وتُديرُ وزارة الصحة التركية المُستشفيات في هذه المُدن وترفع على مبانيها العلم التركي وليس السوري. وتغيير لافتات الطرق والميادين والمؤسسات العامة وأسماء الشوارع التي باتت تحمل أسماء تركية أو إضافة اللغة التركية إلى جوار اللغة العربية.
فعلى سبيل المثال، ففي مدينة أعزاز، التي تقع شمال غرب مدينة حلب، كُتب على جدار مبنى المجلس المحلي للمدينة الذي عينته السُلطات التركية عبارة "التآخي ليس له حدود" باللغتين العربية والتركية، وظهر إلى جانبها علم الجمهورية التركية وراية المعارضة السورية. وأطلق المجلس اسم "الأمة العثمانية" على الحديقة العامة في المدينة بعد ترميمها.
ووافق على رسم العلم التركي على المُستديرة في أكبر ميدان بمدينة أعزاز. ويتعامل مكتب البريد في المدينة باستخدام الليرة التركية فقط. وفي مدينة جرابلس، تم تعليق صورة أردوغان على جدار مستشفاها الرئيسي. وانتشرت البضائع والسلع التركية في الأسواق في المناطق الخاضعة لأنقرة.
إلى جانب ذلك، تطرحُ تركيا مسألة إعادة توطين أعداد من اللاجئين السوريين لديها في هذه المناطق التي لم يسكُنوها قط، ما يشير إلى رغبتها في تغيير التركيبة الديمُجرافية في هذه المناطق لغير صالح الأكراد.
يدُل هذا على أن تركيا تهدف إلى تغيير هُوية سُكان هذه المناطق واستبدالهم بآخرين وتغيير هوية المكان وإكسابه طابعا تركيا. الهدف هُو خلق وإيجاد نطاقات سُكانية واجتماعية عربية خاضعة لتُركيا في مناطق الحدود. وضمان أن يستمر هذا النفوذ حتى بعد انسحاب الوجود العسكري التركي المُباشر من الأراضي السورية وذلك من خلال النُخب التابعة والعميلة.
تهدف تُركيا في محافظة إدلب لجعلها منطقة خاضعة للفصائل والتنظيمات السياسية والعسكرية المدعومة منها التي تسير في فلكها. فكثير ممن يسكنون مُحافظة إدلب الآن هُم ليسوا من أبنائها ولكنهم من أعضاء تلك التنظيمات والفصائل من كُل أنحاء سوريا الذين تم نقلهم إلى إدلب في السنوات الأخيرة. وتهدف تُركيا إلى استمرار وضع هذه الجماعات في إدلب حتى بعد تسوية الصراع ومنع الحكومة السورية من ممارسة حقها في إدارة المحافظة كونها جزءا من إقليم الدولة السورية.
هذا هو قلب ما تُريده وتسعى إليه تُركيا: تغيير التركيبة البشرية والهُوياتية في مناطق الحدود، وأن يستمر نفوذ التنظيمات المؤيدة لها في محافظة إدلب.
وهذه هي سياسة الأمن القومي التركي في سوريا وهي سياسة توسعية مُخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة