انتظر الرئيس التركي أسبوعا كاملا قبل أن يتحدث عما جرى في تونس، عقب الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد بموجب المادة 80 من الدستور.
وهذه الإجراءات باتت معروفة للجميع، وعلى رأسها حل الحكومة وتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه.
هذا الانتظار من قبل الرئيس التركي جاء مخالفا لتوقعات المحلليين السياسيين، الذين توجهت أنظارهم فورا إلى تركيا لمتابعة تعليقها عما جرى في تونس يوم الخامس والعشرين من الشهر الماضي، ويعود ذلك إلى جملة أسباب، لعل أهمها:
1- العلاقة الشخصية المتينة بين الرئيس التركي وبين رئيس حركة "النهضة" الإخوانية، راشد الغنوشي، وهي علاقة قديمة مرت بالعديد من الأطوار، قبل أن يعود "الغنوشي" إلى تونس عقب ثورة 2011، ويدعو في أول تصريح له إلى الأخذ بنموذج حزب "العدالة والتنمية" التركي في الحكم، ومن ثم يصل إلى رئاسة البرلمان ويقوم بسلسلة زيارات سرية وعلنية إلى تركيا، ويضع الإسلام السياسي في مواجهة القوى الوطنية التونسية، ويجعلها محددا للسياسة الخارجية التونسية، بالمخالفة للدستور والإرادة الوطنية.
2- سابقة الموقف التركي من ثورة "30 يونيو" في مصر ضد حكم الإخوان عام 2013، فحينها رفع الرئيس التركي الصوت عاليا ضد ثورة الشعب المصري، متعهدا بتقديم الدعم اللازم لعودة ما أسماه وقتها بـ"الشرعية" إلى الحكم، أي إعادة الإخوان، كل ذلك قبل أن يغير بوصلته السياسية ويرسل رسائل غزل إلى مصر ويطلب فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
3- الإحساس التركي بخسارة كبيرة وتلقي ضربة قوية، لا لأن حركة "النهضة" كانت الحليف الأقوى بين جماعات الإسلام السياسي لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، ولا لأن "أردوغان" هو الصديق الشخصي لـ"الغنوشي"، بل لأن ما جرى في تونس كان بمثابة النهاية الرسمية لحكم الإخوان في العالم العربي، وهزيمة لمشاريع باقي الجماعات الإخوانية، التي راهنت تركيا عليها طويلا لفرض مشروع وحلم ما يسمى "العثمانية الجديدة" في المنطقة تحت عناوين كثيرة، فما جرى لـ"النهضة" في تونس شكّل ضربة للمشروع الإقليمي التركي.
وأتساءل، ما الموقف الحقيقي لتركيا مما جرى في تونس؟
بداية لا بد من القول إن الموقف التركي اتسم بالحذر الشديد، إذ بدا للخارج كأنه غير مبال كثيرا بما جرى، ولكن من يدقق فيه لا بد أن يقف عند مستويين، على شكل توزيع مدروس للأدوار، والرسائل السياسية المراد إيصالها إلى الجهات المعنية، وهي على النحو التالي:
الأول، وهو المستوى الدبلوماسي، وقد تجسد في موقفي الرئاسية ووزارة الخارجية، إذ كان لافتا بعد صمت الرئيس التركي لأسبوع ذلك الاتصال الذي جرى بينه وبين نظيره التونسي، قيس سعيد، وتأكيده "الشرعية والديمقراطية والاستقرار"، وحديثه عن أهمية استمرار عمل البرلمان، ولعل السبب الرئيسي لصمته قبل هذا الاتصال هو الخشية من الوقوع في خطأ ما حصل خلال ثورة "30 يونيو" في مصر، فالتوقيت حساس جدا له، إذ جاء بالتزامن مع سعيه لتحسين العلاقات مع مصر ودول الخليج العربي، وعليه، فإن حساباته إزاء ما جرى في تونس تبدو حذرة للغاية، وتأخذ مستقبل العلاقة مع العالم العربي بعين الاعتبار، خلافا لسياسته السابقة التي راهنت على دعم الإخوان انطلاقا من البعد الأيديولوجي المشترك.
وقد سبق اتصال الرئيسين التركي والتونسي، اتصال آخر بين وزيري خارجية البلدين، تشاويش أوغلو وعثمان الجرندي، تعبيرا عن هذه السياسة، والأمر نفسه عكسه بيان الخارجية التركية، الذي دعا إلى "إرساء الديمقراطية والشرعية"، حيث من الواضح أن الدبوماسية التركية حرصت على إظهار نفسها بمظهر المحايد، حتى لو كان هذا الحياد زائفا.
المستوى الثاني، وهو يخالف الدبلوماسية السابقة، إذ بدت مواقف الأطراف المرتبطة بالنظام التركي، كحزب "العدالة والتنمية"، ورئيس البرلمان مصطفى شنطوب، والصحافة التركية، وياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي، والمتحدث باسمه إبراهيم كالين، مغايرة للحيادية التي أظهرتها الدبلوماسية التركية، فهذه الأطراف ذهبت بعيدا في الوقوف ضد الخطوات الدستورية التي اتخذها الرئيس "سعيد"، حيث تم وصف ما جرى في تونس بـ"الانقلاب"، بل دعت هذه الأطراف التوانسة للنزول إلى الشارع لإعادة ما أسمته "الشرعية"، ووصل الأمر بها إلى مقارنة ما جرى في تونس بما جرى في تركيا خلال محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016.
ولعل الدعوة للخروج إلى الشارع تلقفها "الغنوشي" بشغف كبير، قبل أن يصدمه الشعب التونسي بقرار وقوفه إلى جانب الرئيس "سعيد" وتأييد خطواته في وضع نهاية لتغول حركة "النهضة" في الدولة والمجتمع، بل إن "الغنوشي" انتهج سلوك الرئيس التركي عندما هدد أوروبا بنصف مليون لاجئ من تونس إليها عبر البحر، في محاولة لدفع دول الاتحاد الأوروبي إلى ممارسة الضغط على الرئيس التونسي للتراجع عن خطواته الإصلاحية والإنقاذية، فلسان حال "الغنوشي" يقول: إما سلطتي أو الفوضى!
من الواضح أن حسابات الموقف التركي مما جرى في تونس تتعلق بتوزيع الأدوار والرسائل، فالمراد من الحيادية الكاذبة هو القول إن تركيا تنتهج السياسة الخارجية وفقا للقوانين الدولية والبرجماتية السياسية والمصالح الكبرى بين الدول، وليس على أساس دعم جماعة سياسية أيديولوجية بعينها، بينما الحديث عن الانقلاب وضرورة عودة الشرعية موجه بالدرجة الأولى إلى الداخل التركي لأسباب انتخابية وسياسية لها علاقة بالحاضنة الشعبية لحزب "العدالة والتنمية"، وبالدرجة الثانية موجه إلى جماعة الإخوان، التي لا تزال تراهن على تركيا.
في المحصلة، تشكل هذه الممارسة المزدوجة للمواقف التركية تعبيرا عن الأيديولوجية الحقيقية لحزب "العدالة والتنمية" في ممارسة السلطة والسياسة من جهة، وفي نظرة الحزب إلى نفسه بوصفه يمثل البوتقة الحقيقية التي تحتضن جماعات الإسلام السياسي من جهة ثانية.
الأهم هنا هو إدراك الرئيس التركي أن رهانه على جماعات الإسلام السياسي وصل إلى طريق مسدود، وبات يهدد مستقبله السياسي وبقاء حزبه في السلطة، لا سيما في ظل المشاريع المعروضة على العديد من برلمانات الدول الغربية، بما في ذلك الكونجرس الأمريكي، لتصنيف "الإخوان" كتنظيم إرهابي.
وفي كل هذا تبدو تركيا واقعة بين نارين، نار المحافظة على علاقاتها بجماعات الإسلام السياسي ومواصلة دعمها، ونار إصلاح علاقاتها مع مصر ودول الخليج العربي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة