من غرائب تداعيات عملية عفرين العسكرية أيضا، إصرار أنقرة على أنها تنسق ولو على مستوى منخفض مع دمشق حول هذه العملية
ما يجري في عفرين اليوم قد يكون مرشحاً لجائزة غينيس للأرقام القياسية في الخداع والبراغماتية السياسية المصالحية. الجزء الظاهر من جبل الجليد هنا هو أن تركيا قامت باجتياح عسكري لمنطقة على حدودها في شمال سوريا ذات غالبية كردية بحجة أنها تؤوي مجموعات مسلحة من الأكراد الذين تصنفهم أنقرة إرهابيين.
ومما يظهر على السطح أيضاً، وجود صفقة تركية روسية جديدة، لتقدم الجيش السوري في إدلب مدعوماً بالطيران الروسي، مقابل دخول الجيش التركي إلى عفرين بعد انسحاب القوات الروسية منها.
صفقةٌ تذكّرنا بصفقة حلب مقابل درع الفرات الشهيرة. لكن التصريحات الأخيرة والتفاعلات الدبلوماسية تكشف عن مفارقات وعجائب سياسية، ما يبدو أقوى وأشد تأثيراً من قوة المعارك الحقيقية التي لم تبدأ بعد على الأرض.
فما جرى حتى الآن لا يتجاوز قصفاً جوياً، وتوغلات محدودة للجيش التركي والجيش السوري الحر؛ أسفرت عن السيطرة على أكثر من 11 قرية تعتبر ساقطة أصلاً بحكم القوانين العسكرية، ولا تستحق القتال من أجلها، لذلك تركها المقاتلون الأكراد وتراجعوا نحو مركز المدينة..
لكل طرف من هذه الأطراف مصالحه السياسية التي تجعله يدلي موقفه، أو يعرض خدماته، لكن ما يحدث هو مقدمة لمجازر مدنية يدفع ثمنها السوريون مجدداً. فالنظام والقوات الروسية ستستشرس أكثر في قصفها إدلب، وسيدفع المدنيون مجدداً ثمن انتشار المسلحين بين منازلهم .
من عجائب هذه القصة، تداعي القوى الدولية لإعلان رفضها لهذه العملية قبل أن تبدأ، ومن ثم تكتشف هذه الدول أنها تتفهم القلق التركي! ففرنسا التي عارضت العملية علنا ودعت مجلس الأمن لاجتماع طارئ من أجل بحثها، خرج مندوبها بعد الجلسة المغلقة على مستوى النواب ليتحدث للصحفيين عن تناول الاجتماع لملف الإغاثة في عموم سوريا، ووضع الغوطة الشرقية قرب دمشق وإدلب، ليختم تصريحاته بالقول: "وعلى جانب كل ذلك استعرضنا الوضع في عفرين" ثم يرحل دون أي تعليق. لتتلاحق بعد ذلك التصريحات من باريس ولندن وحتى من واشنطن، التي تؤكد تفهمها للقلق التركي ودوافع أنقرة من هذه العملية. فعَلامَ كان الاعتراض عليها سابقا إذا؟ .
من غرائب تداعيات عملية عفرين العسكرية أيضاً، إصرار أنقرة على أنها تنسّق ولو على مستوى منخفض مع دمشق حول هذه العملية، ونفي دمشق القاطع لهذا الأمر ! فرئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم كان واضحاً في حديثه للصحفيين عن هذا التنسيق، بقدر وضوح بيان الخارجية السورية الذي نفاه جملة وتفصيلاً ! والواقع يقول إن التنسيق حاصل وإن أنقرة مضطرة إليه، طالما أن جيش النظام السوري يتحكم بالممر البري الوحيد الذي يسمح بالدخول والخروج من عفرين، بعد أن حاصرها الجيش التركي من كل جانب تقريباً، وعليه فإن الجيش السوري يستطيع التحكم في منع أو السماح بوصول سلاح وتعزيزات للقوات الكردية من حلفائها في شرق الفرات، وهو الذي يتحكم أيضاً في بوابة خروج اللاجئين المدنيين الذين سيفرون من أرض المعركة إلى مناطق النظام. هنا يبدو أن عملية عفرين دفعت تركيا لتطلب المساعدة من دمشق.
حبال الود بين أنقرة ودمشق كشف عنها المسؤول العسكري في قوات الحماية الكردية ألدار خليل، الذي قال إن موسكو عرضت على قواتهم في عفرين الانسحاب أو تسليم عفرين للنظام وقواته، وأن تركيا توافق على ذلك وترضى به من أجل وقف عمليتها العسكرية في عفرين..
الأغرب أكثر، أن سير المعارك في عفرين وإدلب بشكل متواز، سيسمح بعملية تبادل أو تغيير ديمغرافي قوية، بحيث تنزح غالبية سكانية كردية من عفرين إلى مناطق النظام، فيما تخطط أنقرة لإسكان النازحين من العرب السنة من إدلب في عفرين لاحقاً، بعد سيطرة الجيش التركي عليه، وبذلك تتكامل وتتجانس المساحات من الأراضي السورية التي يسيطر عليها الجيش التركي من جرابلس إلى عفرين وبعمق يمتد من الباب إلى منبج ربما، وهي مساحة شاسعة، يمكن أن تتحول مستقبلاً إلى كيان تركماني تابع لأنقرة سياسياً، وبذلك تكون أنقرة قد تلافت خطأها السابق في العراق، حيث سعت هناك بعد احتلال أميركا له عام 2003 لإنشاء إقليم تركماني لموازنة الإقليم الكردي، لكنها فشلت، وعليه فإن إقامة منطقة في شمال سوريا غرب الفرات تخضع لهيمنة تركيا أو من يواليها من السوريين، وتحديداً التركمان، ستكون ورقة توازن بها تركيا أي مشروع كردي في سوريا مستقبلاً، والمتابع لأخبار جرابلس ومناطق درع الفرات، يدرك أن الجيش التركي لا يخطط للخروج من هناك قريباً.
نعود الآن للمشهد الأوروبي المذكور في بداية المقال، والسؤال عن سبب تغيير الدول الأوروبية لموقفها الرافض للعملية العسكرية في عفرين، ويبدو الجواب هنا مُستتراً في أن ما يحدث في عفرين وإدلب سيفجّر موجة لاجئين ونازحين، وإن كان الحديث وارداً كما سبق عن تبادل أو تغيير ديمغرافي بين سكان إدلب وعفرين، فإن أوروبا تدرك جيداً، أن بيد أنقرة، وسهل عليها، توجيه بضعة آلاف من هؤلاء إلى أوروبا، في موجة لجوء جديدة، وعليه فإن أوروبا لا تملك حالياً ترف إغضاب أو إزعاج أنقرة.
محور غريب آخر في قصة عفرين، هو ذاك التركي الأميركي، فبعد كل الانتقاد الأميركي للعملية قبل أن تبدأ، ظهر وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في تصريح جديد قلّب السياسة الأميركية 180 درجة، حيث قال إن بلاده تتفهم القلق التركي، وتسعى للعمل مع تركيا من أجل إنشاء منطقة آمنة في شمال غرب سوريا، وهي المنطقة التي طالما نادت بها أنقرة على مدى 4 سنوات، وطالما رفضت واشنطن إقامتها طوال تلك السنوات، وواشنطن هنا التي قررت إبقاء قواتها في شمال سوريا لسنوات طويلة، مستغلة تعاون قوات سوريا الديمقراطية معها، لا تريد إغضاب أنقرة فتقع قواتها الأميركية في شمال سوريا بين فكي كماشة لاحقاً، تركيا من الشمال، والقوات الروسية والسورية من الجنوب.
كما أن واشنطن تسعى للعب دور الوسيط بين تركيا والفصائل الكردية في سوريا، من أجل تشكيل تحالف أقوى ضد موسكو وإيران، ومن أجل جذب تركيا من معسكر روسيا وإيران، إلى معسكرها في سوريا. لذا ترى واشنطن أنه بإمكانها التضحية بفريق صغير من الأكراد في عفرين، مقابل سلامة العلاقات مع تركيا وفي نفس الوقت عدم خسارة الفريق الأقوى من الأكراد في شرق الفرات.
أما روسيا التي تحتاج عنصراً كردياً يحضر مؤتمر سوتشي نهاية الشهر، فإنها قلقة أيضاً من تنامي تعاون الأكراد مع الأميركيين واحتمال انقلابهم على حليف موسكو في دمشق، بشار الأسد، لذلك فلا مانع من معاقبة جزء منهم طالما أنهم رفضوا العرض الروسي بسيطرة الجيش السوري على عفرين من أجل حقن الدماء.
لكل طرف من هذه الأطراف مصالحه السياسية التي تجعله يدلي موقفه، أو يعرض خدماته، لكن ما يحدث هو مقدمة لمجازر مدنية يدفع ثمنها السوريون مجدداً. فالنظام والقوات الروسية ستستشرس أكثر في قصفها إدلب، وسيدفع المدنيون مجدداً ثمن انتشار المسلحين بين منازلهم.
كما أن قوات الحماية الكردية في عفرين التي هي النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا "إرهابيا"، لن تتوانى هي الأخرى عن استخدام المدنيين دروعاً بشرية لها في حربها مع الجيش التركي.
أما الجيش السوري الحر الذي أظهر براعة في تقديم مصلحة الداعمين الإقليميين على مصلحة بلاده وشعبه، من خلال ارتهانه الكامل للأجندة التركية، فإننا نتساءل عن موقفه في حال دفع تعقيد القضية الكردية في سوريا أنقرة لمصالحة دمشق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة