تصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية ينزع كامل الشرعية عن أدوار تركيا الإقليمية التي نظرت للجماعة كإحدى أدوات التوسع في المنطقة وضرب استقرارها.
ثمة خطى جدية تتخذها الإدارة الأمريكية حيال قضية وضع جماعة الإخوان على لائحة الجماعات الإرهابية الأجنبية، وذلك بعد ممانعة الإدارات الأمريكية السابقة، إذ قالت سارة ساندروز، السكرتيرة الصحفية بالبيت الأبيض: "لقد استشار الرئيس الأمريكي فريق الأمن القومي وقادة المنطقة الذين يشاطرونه قلقه حيال الجماعة، التي يجري تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية وفق قوانين وآليات العمل الداخلي".
الإعلان الأمريكي لم يكن الأول من نوعه ولكنه بدا الأجرأ والأكثر جدية من حيث إجراءاته، إذ جاء في إطار توافق ثلاثي بين أجهزة الأمن القومي والخارجية والبيت الأبيض، وذلك على نحو بدا مرتبا ومنسقا، بما أثار قلق الإخوان ومعتنقي أيديولوجيتهم ومناصريهم من الفواعل الرئيسية على مسرح الإقليم، وفي المقدمة منهم تركيا، التي أعربت، وفق صياغة مضطربة حملت تهديدات مبطنة، عن قلقها إزاء ارتدادات الموقف الأمريكي، ليحذر المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية، الحاكم في تركيا، من أن "الخطوة الأمريكية من شأنها المساعدة في تزايد أعداد التنظيمات الإرهابية على نحو خفي".
أوضح الموقف التركي المتوتر والذي بدا من حيث المستوى المنخفض للتعليق على الحدث رغم أهميته، أن ثمة تخوفات تركية من التورط في قضية غير معلوم أبعادها، سيما أن أنقرة كانت قد استضافت قبل أيام معدودة مؤتمرا إقليميا لقيادات الجماعة لإحياء ذكرى تأسيسها، وهو ما قد يعني أن القيادة التركية قد تتكبد تكلفة باهظة لمواقفها وسياساتها الإقليمية، وذلك في ظل ما يحمله الموقف الأمريكي في طياته من إمكانية فرض عقوبات اقتصادية على دول، ومنع قيادات سياسية من السفر، وفرض قيود واسعة النطاق حيال شركات ومجموعات من الأفراد الذين يتعاملون مع الجماعة الإرهابية.
تأسس التخوف التركي وعززه أن السياسات الأمريكية لم تعد تنفصل عن تصاعد نفوذ قوى عربية لدى واشنطن، هذا في وقت تشهد فيه علاقات البيت الأبيض بتركيا توترات تتصاعد مظاهرها وتتعدد ملفاتها. وعلى جانب آخر، فإن المستوى المنخفض للتعليق التركي على القرار الأمريكي ارتبط بإدراك أن آليات أنقرة للتحرك تقوم على ضرورة التنسيق مع بعض عناصر البيروقراطية الأمريكية المتحفظة على توقيت القرار الأمريكي، ذلك أنه بينما يعتبر الرئيس دونالد ترامب أن الإخوان منظمة إرهابية تحمل سياساتها وأيديولوجيتها مخاطر جمة على الأمن القومي الأمريكي وحلفاء واشنطن في الإقليم، ويدعمه في ذلك وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، فثمة قوى بيروقراطية داخل وزارة الخارجية وبعض مراكز الأبحاث تخشي من أثر التعجيل بالقرار على علاقات واشنطن مع المؤسسات التركية، بما يستدعي بحث أطر بديلة تحمل ذات المضمون ليدفع النظام التركي الذي يتبنى ذات الأيديولوجية الإخوانية "ثمن التطرف".
تركيا وارتدادات القرار الأمريكي
تتعدد أسباب ومحركات التخوف القيادة التركية من ارتدادات القرار الأمريكي، المحتمل، إذ أنه سيشكل نقطة تحول كبرى في تاريخ النظام التركي القائم على دعم الجماعات الإرهابية والمتبني لـ"الأيديولوجية الإخوانية"، والمرتبط بالجماعة وعناصرها عبر أطر تتجاوز العمل السياسي إلى نسق من الروابط الشخصية وعلاقات النسب التي تعددت وامتدت منذ عقود خلت.
فالعلاقة بين تركيا وجماعة الإخوان الإرهابية تقوم ليس فحسب على الروابط العملية التي تجمع النخبة السياسية الحاكمة في تركيا مع مختلف التيارات الدينية المتطرفة في المنطقة العربية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان، وإنما تتأسس أيضا على ذلك النمط من الروابط التي تتجاوز الإطار السياسي إلى النسق الأيديولوجي الذي يجعل الجانبين ينتميان لتيار عقائدي واحد، وذلك منذ أن أقدم نجم الدين أربكان على تأسيس حركة "المللي جورش" في ستينيات القرن الماضي، والتي تمثل الجناح التركي لجماعة الإخوان. ومن رحم هذه الحركة خرج العديد من الأحزاب السياسية، من ضمنها العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، رغم أنه مثّل التيار التجديدي الذي انقلب على تيار أربكان داخل حزب الفضيلة عام 2001، لذلك فإن القرار الأمريكي موجه لتركيا وقيادتها وأنماط تحالفاتها ومريديها من التيارات الدينية المتشددة على نحو قد يستجلب مجموعة متنوعة من المخاطر التي يمكن قراءتها على النحو التالي:
نزع "شرعية" النظام التركي: تأسس الحزب الحاكم في تركيا من قبل قطاع محافظ ينتمي للتيار الديني المرتبط بجماعة الإخوان الإرهابية، كما أنه قدم نفسه للغرب باعتباره ممثلهم عبر الإقليم ولعب أدوارا رئيسية في التقارب الذي جمع بين الإدارة الأمريكية السابقة وبعض فروع الجماعة عبر الإقليم، وذلك في محاولة لتسويقهم بحسبانهم "نسخا محلية" من "العدالة والتنمية" التركي، بما يعني أن إصدار قرار بوضع الجماعة الإخوانية على لائحة الإرهاب، ينسحب مضمونا على القيادة التركية التي قدمت نفسها دوليا، في مرحلة من المراحل، بحسبانها ممثلتهم، وبحسبانهم وكلاءها على ساحة الإقليم.
وتشير تصريحات الرئيس التركي ومواقفه حيال العديد من التطورات إلى أنه يعتبر نفسه المرشد العام لجماعة الإخوان. وثمة العديد من الأدبيات التي توضح أن ذلك لا ينسجم مع أيديولوجيا الحكم التركي وحسب، وإنما يجسّد أيضا فكرة أن هذه الجماعة تحولت خلال العقد الأخير لتغدو إحدى أدوات تركيا لشرعنة دورها كدولة قائد لدول العالم الإسلامي. ولعل هذه الرسالة قد أكدتها القيادة التركية عبر العديد من المواقف خلال السنوات الماضية، ومن ضمنها التأكيد على أن حزب تركيا الحاكم ليس ببعيد عن مبادئ تنظيم الإخوان، الذي درج على الاحتفال سنويا بذكرى تأسيسه في مدينة إسطنبول، بمشاركة "العشرات" من قياداته وعناصره عبر الإقليم.
إسقاط مشروع تركيا الإقليمي: وظّفت تركيا قضايا جماعة الإخوان الإرهابية لاستنساخ استراتيجية طهران في رعاية التنظيمات الطائفية، من أجل خدمة نفوذها الإقليمي، وتمدد قواتها العسكرية خارج حدودها الجغرافية. لذلك لجأت إلى استخدام قدراتها المالية وإمكانياتها الإعلامية لخدمة مشروع الإخوان في مصر القائم على استهداف الدولة في المنطقة العربية، والعمل على عدم استقرارها سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وجرى استنساخ ذلك على مختلف الساحات الإقليمية، وفق مشروع تركي يرعاه أردوغان ويوظف الإخوان في إطاره، سيما أنهم بحاجة للملاذ الآمن الذي يؤمن لهم القاعدة للانطلاق في تطبيق أفكارهم، واللجوء إلى العنف المسلح لضرب الدولة الوطنية والانقضاض عليها بعد ذلك.
لذلك، فإن تصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية من شأنه أن ينزع كامل الشرعية عن أدوار تركيا الإقليمية التي نظرت للجماعة بحسبانها إحدى أدوات التوسع في المنطقة وضرب استقرارها. وقد قال في هذا الصدد ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي، إن "إسقاط الخلافة تسبب في فراغ سياسي في المنطقة، وقد سعى تنظيم الإخوان لأن يكون ممثلا سياسيا في العالم نيابة عن الأمة، البعض منا استخف بقوة الإخوان، لكن جميع الحركات الإسلامية ولدت من رحم الإخوان"، وأضاف أن جماعة الإخوان تمثل اليوم ذراعا للقوة الناعمة لتركيا في العالم العربي، فهذه الجماعة ترحب بالدور التركي في المنطقة، وتنظر لتركيا بحسبانها "عنوان الخلافة". وربما تشكل مثل هذه التصريحات المسوغ لملاحقة العديد من أعضاء الحكم التركي بحسبانهم داعمين وأعضاء في جماعات إرهابية.
تراجع ركائز محور تركيا – قطر: تأسست ركائز التحالف التركي – القطري على مشتركين رئيسيين؛ أولهما يتعلق بدعم الدولتين للجماعات الدينية المتطرفة، وفي المقدمة منها جماعة الإخوان الإرهابية. وثانيهما ارتبط بتنسيق الجانبين مع الإدارة الأمريكية السابقة من أجل تمكين جماعات الإخوان من الحكم في عدد من البلدان العربية، وفيما رحلت إدارة أوباما، فإن توجهات إدارة ترامب حيال الإخوان وحلفائها تُضعف ركائز التحالف التركي – القطري، القائم على دعم الحركات الإرهابية عبر الإقليم لزعزعة استقرار الدول وأنظمة الحكم فيها.
وقد يتحول كل طرف إلى عبء على الآخر، فالأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا قد تحد من القدرة على المناورة، كما أن استمرار الدولتين في ترحيل قيادات الإخوان من أنقرة إلى الدوحة والعكس قد لا ينطلي على المجتمع الدولي، ولن ينسجم أيضا مع طبيعة المواقف الأمريكية الأخيرة، والتي قد تنتقل من حيز التصريح والتلويح بالعقوبات إلى فرض حزم عقوبات مباشرة، سيما بعد سلسلة العقوبات التي فرضت على طهران، وسياسات واشنطن إزاء الاتفاقيات الاقتصادية مع تركيا وتجميد تسليم طائرات F35 لتركيا، بما يؤشر إلى أن ثمة حزما قد يجابه أي اختراقات للقرارات الأمريكية، وربما ذلك يفسر تراجع الخطاب التركي حيال الموقف الأمريكي من جماعة الإخوان.
لذلك، فإن تصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية، من شأنه أن ينعكس على قدرة تركيا وقطر على تسخير إمكانيات ومقدرات دولتيهما من أجل الدفاع عن هذه الجماعة عبر أطر ومستويات لم يغب عنها العمل الأمني والعسكري في العديد من الميادين والساحات الإقليمية.
نهاية "ملاذ" الإخوان الآمن: تجابه فكرة الملاذات الآمنة للإخوان عبر الإقليم تحديات غير مسبوقة، ليس وحسب بسبب التحركات الأمريكية الأخيرة، التي قد تشكل عبئا من الصعب التكيف معه أو المناورة في مواجهته، وإنما باتت أيضا ترتبط بالتزامن بين القرار الأمريكي وتزايد مظاهر ضعف النظام التركي، إن بسبب أزمة تركيا الاقتصادية أو بفعل تنامي حضور المعارضة السياسية الرافضة لاستمرار سياسات الرئيس التركي التي سخّرت مقدرات البلديات الرئيسية، سيما في إسطنبول وأنقرة، لخدمة عناصر الإخوان.
وقد يزيد من الخناق حول الجماعة أنها باتت بالفعل مصنفة كمنظمة إرهابية لدى العديد من دول الشرق الأوسط، وذلك على نحو من شأنه أن يفضي إلى تعزيز توجه العديد من التيارات المتطرفة دينيا لتتبرأ من أيديولوجية الجماعة وعناصرها الإرهابية، وقد يتضح ذلك في حالة "النهضة" في تونس، و"العدالة والتنمية" في المغرب، كما أنها حالة قد تدفع بحدوث انشقاقات عنيفة داخل الجماعة، على نحو من شأنه أن يضعف قدرتها على مجابهة الأزمة، ويزيد من تكلفة مناصرتها من قبل أي حليف إقليمي، سيما أن القرار الأمريكي قد تلحقه قرارات مماثلة من قبل العديد من الدول الغربية.
تداعيات القرار الأمريكي على الداخل التركي
أحد أهم ارتدادات القرار الأمريكي، حال صدوره، بشأن تصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية، وفق القوانين الأمريكية، أنه سيشكل ضربة موجعة للنظام التركي، الذي سيتحمل تكلفة خياراته على نحو قد يدفع بحدوث انشقاقات عنيفة داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، كما أنه قد يفضي إلى تجرؤ "قيادات وسيطة" على إعلان انفصالها عن الحزب وانضمامها لحزب جديد، قد تسرع التوجهات الأمريكية حيال الإخوان من ظهوره، سيما أن هذه الخطوة اكتسبت قوة دفع هائلة بعد نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، وبفعل تصاعد مظاهر أزمة تركيا الاقتصادية.
على جانب آخر، فمن شأن الإجراء الأمريكي المحتمل أن يسقط من يد الرئيس التركي ورقة طالما وظّفها لشرعنة سياساته على الساحة المحلية، كما من شأن ذلك أن يزيد من شعبية المعارضة التركية التي تتهم الرئيس أردوغان بتسخير ميزانية الدولة لخدمة جماعات إرهابية أضرت بمصالح تركيا وهويتها وصورتها على الساحة الدولية. هذا إضافة إلى أن المعارضة التركية قد تتبنى خيار الضغط من أجل التطبيع مع المجتمع الدولي بترحيل وتسليم القيادات الإرهابية، حتى تسقط عن تركيا تهمة التورط في دعم جماعات جهادية.
وقد يدفع ذلك بمراجعة العديد من دول العالم سياساتها حيال المطالب التركية الخاصة بتسليم معارضي أردوغان بدعوى تورطهم في دعم الإرهاب، على نحو قد يتيح للمعارضة التركية حرية حركة غير مسبوقة على الساحة الدولية، بما من شأنه أن يضاعف من مظاهر تعقيد علاقات تركيا مع العديد من الدول الغربية، كما من شأنه أن يفاقم من الأعباء التي أثقلت بها القيادة السياسية كاهل الدولة التركية، سيما إذا ما توجهت الإدارة الأمريكية إلى التلويح بفرض عقوبات مباشرة على الدول التي تؤوي عناصر جماعة الإخوان الإرهابية، وهي تحولات سيكون لها تداعيات مباشرة على الداخل التركي على المستويات السياسية والاقتصادية.
محمد عبدالقادر خليل.. رئيس تحرير مجلة شؤون تركية بمركز الأهرام للدراسات
aXA6IDMuMTQ5LjI0LjE0NSA= جزيرة ام اند امز